لم تكن إشارة وزير الخارجية السورية، وليد المعلم، في مؤتمره الصحافي الأخير إلى توكيد تبني الحل الأمني عبثا. ما أراد الوزير قوله أن النظام بصدد تصعيد حربه على الشعب والقوات السورية المتمردة من أجل إعادة توكيد سيطرته على البلاد، السيطرة التي يفقدها بصورة حثيثة منذ أسابيع. وإن لم تكن إشارات المعلم كافية، فقد تلاه وزير داخلية النظام، منذرا بحرب «تطهر سورية من رجس المتمردين». خلال الأيام القليلة الفاصلة بين التصريحين، نشر آلاف جدد من الجنود، عناصر الميليشيات، معززين بمئات الدبابات والعربات المجنزرة، وأخذت أرقام الضحايا في التصاعد. يأتي هذا التطور والثورة السورية تحث الخطى نحو ذكرى انطلاقتها السنوية الأولى، وما تعب السوريون ولا فت عضدهم حجم الخسائر الكبير في الأرواح، ولا اعتقال عشرات الألوف، أو تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد. ثمة وجع كبير يفيض من شوارع المدن والقرى السورية، ولكن عزم السوريين على إسقاط النظام لم يكن يوما بمثل ما هو عليه الآن. قضيت خلال دراستي العليا شهورا طويلة في مركز الوثائق البريطانية الرسمية. وفي أحد الأيام، وأنا أحاول استطلاع الإجراءات الأمنية والعسكرية التي اعتمدتها سلطات الانتداب البريطاني للتعامل مع الثورة الفلسطينية الكبرى في 1936 1939، عثرت بالصدفة البحتة على رسالة متأخرة عن فترة الثورة، وجهت إلى عدد من الممثليات البريطانية في الشرق الأوسط، يقيم فيها مسؤول بارز في وزارة المستعمرات المنطق الذي استندت إليه القوى الأمنية البريطانية في فلسطين. ما لا بد من تذكره في التعامل مع الفلسطينيين، وشعوب الشرق عموما -كتب المسؤول البريطاني- أن هذه مجتمعات تعيش حياتها وتسلك في علاقتها بالسلطات سلوك الجماعة المتضامنة، وليس سلوكا فرديا حرا، سواء كان سكان قرية ما أو حي ما من الأقارب أو لا. «ولهذا السبب، فلا بد أن يوقع العقاب عليهم أيضا جماعة، بدون تكلف عناء البحث عن الأفراد المسؤولين عن ارتكاب جريمة ما. القرية التي يصدر منها عمل إرهابي ضد قواتنا، كان لا بد أن تعاقب جميعها». وينتهي التقييم باستنتاج واحد وواضح: «هذه مجتمعات لا تفهم المسؤولية الفردية، والعقاب الجماعي فقط هو الذي نجح في النهاية في كسر المجموعات الإرهابية». الأنثربولوجيا الكولونيالية التي أسست للإجراءات البريطانية لقمع الثورة، والتي أدت في النهاية إلى بناء معسكرات اعتقال جماعية، قبل بناء المعسكرات النازية المشابهة بعدة سنوات، هي ذاتها التي أسست لحملة القمع المديدة التي تعهدتها قوات النظام السوري في مواجهة الثورة. منذ الشهور الأولى للحركة الشعبية، لم تتوان قوات أمن النظام عن توجيه سلاحها وأدوات قمعها إلى مدن وأحياء ومناطق بأكملها، وبدون تمييز. وربما اتخذ القرار المبكر بنشر الجيش ليس فقط لأن أجهزة الأمن بدت وكأنها تفقد السيطرة، ولكن أيضا لأن النظام أراد عقاب المدن، لا المتظاهرين وحسب، عقاب درعا وإدلب وحمص واللاذقية وجبلة، وليس مجموعة معارضة بعينها. سياسة المواجهة المفتوحة مع الشعب السوري، كل فئات الشعب السوري، في المدن والبلدات الثائرة، أدت إلى اتساع مستمر في جغرافية الثورة، وإلى تطور أكثر حدة: الانشقاقات المتزايدة للجنود والضباط، ومن ثم ولادة الجيش السوري الحر. مهما كانت درجة انضباط جيش ما، ومهما بلغت وسائل التحكم والسيطرة على وحدات الجيش أو فداحة إجراءات عقاب عناصره المتمردة، فإن سلوكا مثل سلوك النظام السوري كان لا بد أن يدفع أخيرا إلى انفراط عقد هذا الجيش. وليس ثمة شك في أن تشكيل الجيش الحر وازدياد تعداد القوات المنضوية تحت رايته، بغض النظر عن مستوى تماسك هذه القوات وخضوعها لقيادة واحدة، ووجود هذه القوات في معظم المدن والبلدات الثائرة، هو التطور النوعي الأبرز في مسيرة الثورة السورية الطويلة. ولم يكن غريبا، في ضوء الوحشية الفاشية التي تميزت بها القوات الموالية للنظام وأعداد ضحايا الثورة المتزايدة، أن يجد الجيش الحر ترحيبا غير متحفظ ولا محدود من السوريين، في كافة أنحاء البلاد. خلال الأسابيع القليلة الماضية، بدا واضحا أن مدنيين سوريين ينضمون بأعداد كبيرة إلى وحدات الجيش الحر، أو أنهم يشكلون وحدات جديدة باسم الجيش، وأن وحدات الجيش من العسكريين، أو من المسلحين المنضوين تحت راية الجيش، تقوم بدور فعال في حماية فعاليات الثورة وتحرير مدن أو بلدات أو أحياء مدن بأكملها من سيطرة أجهزة الأمن والقوات الموالية للنظام. ولم يقتصر هذا التطور على الأطراف الشمالية أو الشرقية لسورية، بل أيضا على محيط العاصمة دمشق. أجهزة أمنية فقدت أية حوافز أخلاقية وآلة عسكرية هائلة بكل المقاييس تواجه الآن شعبا ثائرا، تقف إلى جواره مجموعات من الجيش الحر. ولكن آمال النظام في أن ينجح التصعيد العسكري وإجراءات القمع في إخماد الثورة أصبحت ضئيلة، بل ومنعدمة. ما سيحدث على الأرجح أن هذا العنف الفاشي الأعمى لن يؤدي إلا إلى اتساع نطاق حركة الانشقاق عن الجيش وتعزيز قوات الجيش الحر وقدرته، بدعم متزايد من الحركة الشعبية، على تقليص مساحة السيطرة والتحكم للقوات الموالية وأجهزة الأمن. كنت أشرت من قبل إلى أن قرار قيادة النظام المبكر بدفع الجيش إلى المواجهة مع الشعب والثورة، وصعوبة قيام ضباط معارضين محتملين بانقلاب عسكري في جيش كبير نسبيا ومتعدد مراكز القيادة، يعني أن الثورة لن تستطيع الانتصار بدون انهيار الآلة العسكرية. ليس هذا ما تمناه أكثر السوريين في قوى المعارضة بالتأكيد، ولا ما تمناه عربي لسورية. أن تحتفظ سورية الثورة بتماسك جيشها ومقدراتها العسكرية هو أمر بالغ الأهمية والضرورة، ليس فقط لأن سورية دولة مواجهة رئيسية مع الدولة العبرية، ولكن أيضا لأن سورية ناهضة، في محيط مشرقي لم يستقر بعد، لا بد أن تكون سورية قوية. ولكن الأزمات الكبرى تطور منطقها الخاص في النهاية، ولا تخضع بالضرورة لإرادة أطرافها أو المهتمين. تراجع قدرة النظام على السيطرة والتحكم وعجزه الواضح عن وضع نهاية للحركة الشعبية، وليس أي سبب آخر، هو الذي جاء بالمبادرة العربية الثالثة. في المبادرة الأولى، قدم النظام العربي إلى الرئيس الأسد نصا يضمن وجوده في موقعه حتى 2014. في الثانية، تعاملت المجموعة العربية مع مستقبل سورية بقدر كبير من الغموض والتعميات واللجوء إلى حل التفاوض بين النظام والمعارضة المحمل بالاحتمالات. المبادرة العربية الثالثة والأخيرة هي المرة الأولى التي يقول فيها العرب إن الطريق إلى نهاية الأزمة في سورية يبدأ بتنحي الرئيس الأسد، كمقدمة لتغيير نظام الحكم والاستجابة للمطالب الشعبية. ثمة كثير مما يمكن أن يقال حول مقاربة الجامعة العربية للمسألة السورية، ولكن أحدا لا يجب أن يقلل من الدلالات بالغة الأهمية للمبادرة. بمعنى من المعاني، تعلن المبادرة بلا مواربة أن شرعية الرئيس الأسد العربية وشرعية نظامه قد انتهت. ولأن المبادرة ولدت بما يشبه الإجماع العربي، فسيكون لها أثر بالغ على الموقفين الروسي والصيني. وإن كانت معلومات المعارضة السورية صحيحة، فإن المفاوضات الدائرة بين موسكو، من جهة، والولايات المتحدة والمجموعة العربية والمعارضة السورية، من جهة أخرى، تتعلق بكل شيء سوى مستقبل الرئيس الأسد. بكلمة أخرى، لم يعد الروس معنيين بتأمين الرئيس ومستقبله، بل بمسائل أخرى. وإلى جانب هموم الصين النفطية، فإن الموقف الصيني يرتبط بصورة ما بنظيره الروسي. قد لا يأتي التغيير في المقاربتين الروسية والصينية سريعا ومرة واحدة، ولكن هذا التغيير قادم بدون أدنى شك. الموقف الإيراني، بالطبع، لم يزل مشكلة، ولا أحد يعرف على وجه اليقين ما إن كانت طهران قررت أن تربط مصالحها في سورية وعلاقاتها مع الشعب السوري بمصير النظام، أم إنها ستسارع خلال المرحلة القصيرة المقبلة إلى بدء مفاوضات جادة وذات معنى مع المجلس الوطني السوري. لا تحتاج الثورة السورية تدخلا أجنبيا عسكريا، لا بالصيغة الليبية ولا بأية صيغة أخرى. هذا فوق أن التدخل الأجنبي سيكون باهظ التكاليف، ليس على سورية وحسب، بل وعلى الوضع العربي المشرقي ككل. وليس ثمة مؤشر حتى الآن، على أية حال، على تبلور إرادة غربية، أو حتى تركية، للتدخل العسكري المباشر. شرف تغيير سورية سيكون سوريا، خالصا للشعب العربي السوري. وضع النظام الاستراتيجي في تراجع حثيث، سياسيا واقتصاديا وعسكريا. لم يصل نظام حاكم إلى مثل هذا المستوى من التراجع وفقدان الشرعية واستطاع المحافظة على وجوده. كما أن توليد السيطرة والتحكم هو في طبيعة مؤسسة الدولة الحديثة، فإن لهذه الدولة قوة طرد لا ترحم، سرعان ما تنهض للفعل عندما يفقد النظام مؤهلات الحكم الضرورية. إلى أين ستذهب سورية من هنا، وكيف سيتجلى الفصل الأخير في عمر النظام؟ لا أحد يمكنه طرح توقعات محددة. وربما يكون من الاستخفاف بثورة الشعب السوري الباسل ادعاء إمكانية التوقع. المخرج الأكثر أمنا هو بالتأكيد أن يؤدي التراجع الحثيث في وضع النظام الاستراتيجي إلى اندلاع حراك شعبي واسع النطاق في العاصمة دمشق، يفتح أبواب العاصمة للقوى الشعبية في جوارها، المشتعلة بالثورة منذ شهور، يصل في النهاية إلى فقدان النظام السيطرة كلية على عاصمته، وعلى مقدرات الدولة في العاصمة. ولكن الأفضل قد لا يقع بالضرورة، وربما تدفع معاندة النظام وفقدانه شجاعة الاعتراف بخسارته المعركة البلاد إلى حرب استنزاف طويلة ومريرة، بين الشعب وقوات الجيش التي انحازت إلى صفه، والقوات الموالية للنظام. قدر لسورية أن يكون ثمن التغيير فيها باهظا وموجعا. قدر لها أن تكون الشاهد الأبرز على إرادة التغيير العربية، التي لم يعد منها من مفر. وبات على السوريين الآن قطع الميل الأخير في هذا الطريق، في هذه الملحمة العربية الكبرى، مهما كانت الخسائر.