منذ أن أعلن توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق والمنظّر الأبرز للاستعمار الغربي الجديد، عن نظريته التي ينص جوهرها على ضرورة التحكم في التغيير الديمقراطي العربي وتوظيف الثورات العربية بما يخدم المصالح الغربية، بدأنا نرى التطبيق الأول لها في ليبيا، على شكل تدخل حلف الناتو عسكريا، واستغلال قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 الذي صيغ بطريقة ملغومة لتغيير النظام الديكتاتوري الفاسد في البلاد. اختيار مدينة بنغازي لكي تكون رأس الحربة في عملية تغيير النظام في ليبيا كان مدروسا بعناية، فالمدينة تحتوي على أكبر مستودع للغضب والإحباط ضد العقيد معمر القذافي، بسبب عملية التهميش والإذلال التي تعرضت لها وأهلها من قبل نظامه، ولأنها دفعت ثمنا غاليا من دماء أبنائها الذين ثاروا بين الحين والآخر ضد هذا الظلم والتهميش. تدخل حلف الناتو لم يكن بهدف إحلال الديمقراطية وإنقاذ الشعب الليبي من مجازر النظام بالدرجة الأولى، وإنما بسبب الاستحواذ على النفط وإمداداته، والنفط الليبي هو الأجود في العالم لأنه «حلو وخفيف» والأقرب إلى المصافي الأوربية على الجانب الآخر من البحر المتوسط، ولا يمر عبر أي مضائق يمكن إغلاقها مثل مضيق هرمز (مدخل الخليج) أو باب المندب (مدخل البحر الأحمر) أو عبر قناة السويس (مدخل البحر الأبيض). الدول الغربية التي شاركت في إطاحة النظام الليبي تحت مظلة الناتو لا تريد من ليبيا وشعبها إلا أمرين أساسيين، الأول هو استمرار سيطرتها على النفط وإبعاد الروس والهنود والصينيين عنه، وتنصيب نظام يحقق مصالحها النفطية، إلى جانب منع أي هجرات إفريقية غير قانونية إلى شواطئها. معظم احتياطات النفط الليبي (49 مليار برميل) تتركز في إقليم برقة وعاصمته بنغازي، ولذلك حظيت هذه المنطقة بالذات باهتمام القوى الغربية، وكانت محور زيارات جميع قادتها منذ نجاح الثورة. أما باقي المناطق، مثل طرابلس وفزان، فلم يسأل عنها أو يزرها أحد، حتى لو سيطر تنظيم «القاعدة» عليهما بالكامل. فطالما أن بنغازي هادئة، والنفط يتدفق إلى المصافي الغربية بمعدلاته القصوى فليذهب أهل طرابلس وفزان إلى الجحيم. المرحلة الثانية من خطة التدخل العسكري الغربي في ليبيا هي فصل برقة (تمتد من سرت في الغرب حتى السلوم على الحدود المصرية شرقا) عن باقي المناطق الأخرى، ومثلما أدخلوا النظام الفيدرالي في العراق كمكافأة لشعبه على تأييد بعض أبنائه للغزو والاحتلال، ها هم يريدون تكرار السيناريو نفسه في ليبيا. فَدْرلة العراق كان الهدف الأساسي منها هو انفصال المناطق الكردية الشمالية وتحويلها تدريجيا إلى دولة مستقلة، وفدرلة ليبيا، التي تطل برأسها بقوة حاليا من خلال إعلان مجموعات قبلية وشخصيات سياسية برقة ولاية فيدرالية، هو التجسيد الأبرز لسيناريو العراق. معارضة العرب، سنة وشيعة، لانفصال كردستان تحت مسمى الفيدرالية لم تغير من واقع الأمر شيئا، ومن يزور أربيل والسليمانية، أبرز مدينتين في الإقليم، يرى حجم الازدهار الاقتصادي والرخاء الاجتماعي، والتغلغل الغربي بل والإسرائيلي أيضا. ومن المؤكد أن معارضة بعض أهل بنغازي وطرابلس وباقي المناطق للحكم الذاتي في برقة ستلاقي المصير نفسه. بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية عام 1943، جرى تقسيم إيطاليا إلى ثلاث ولايات: برقة (تحت الاحتلال الإنجليزي)، فزان (تحت الاحتلال الفرنسي) وطرابلس تحت حماية قاعدة هويلس الأمريكية. وكانت بريطانيا تفضل استقلال برقة وإقامة حكومة فيها، تماما مثلما فعلت في دول الخليج، حيث أقامت مملكة أو إمارة فوق كل بئر نفط اكتشفته. المشروع البريطاني يتجدد هذه الأيام بطريقة أو بأخرى، وقيام دولة برقة المستقلة قد يكون بدأ فعلا، فلا توجد حكومة مركزية قوية، والميليشيات تسيطر عمليا على جميع المناطق الأخرى، حيث تسود الفوضى الأمنية، والفساد في البلاد بلغ معدلات غير مسبوقة حتى في زمن النظام السابق. المستشار مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي، هدد باستخدام القوة لمنع الفيدرالية في بنغازي، ولكنه نسي أنه لا يستطيع حماية نفسه في مقره، واضطر إلى الهرب من باب مكتبه الخلفي قبل شهرين، عندما هاجمه محتجون على الفساد وانعدام الخدمات. تعيش ليبيا هذه الأيام مسلسلا لا حد له من الأزمات، وهي قطعا ليست بحاجة إلى أزمة جديدة من العيار الثقيل؛ فالبلد مفتت، والصراع بين الميليشيات المسلحة يثير الرعب في أوساط المواطنين، ومطار طرابلس تحول إلى غابة سلاح، مثل باقي أحيائها الأخرى، والآن بدأت النزعة الانفصالية المناطقية تتصاعد وتهدد بمضاعفات خطيرة. ليبيا الآن أمام خيارين: الأول أن تقبل بالفيدرالية ومشروع التقسيم المدعوم من الخارج، والثاني أن تنزلق إلى حرب أهلية مناطقية، ففيدرالية بنغازي قد تتطور إلى انفصال والاستئثار بالتالي بالثروات النفطية، بحيث تتحول إلى مشيخة خليجية، ومن سمع شعارات مؤيدي الحكم الذاتي المطالبة بأن تبقى ثروات برقة لأهلها يدرك ما نقوله. المؤيدون للخيار الفيدرالي في برقة يضربون مثلا بنجاح نموذج دولة الإمارات العربية المتحدة، ولكنهم يغضون النظر عن المآل الذي آلت إليه الأوضاع في العراق الفيدرالي الجديد، مثلما ينسون أنه لا يوجد رجل بوطنية ووحدوية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في ليبيا الجديدة أيضا. ليبيا لا تقترب من النموذج الفيدرالي الإماراتي، وإنما من النموذج الفيدرالي العراقي، فالجماعات المتشددة هي الأكثر وجودا على أرضها وهي التي لعبت الدور الأكبر في الحرب ضد نظام العقيد القذافي، ومن المؤكد أنها لن تتنازل عن حقها في الحكم أو معظمه، وإن لم يكن فإقامة إمارات إسلامية مستقلة. مفتي ليبيا قال إن الفيدرالية هي مقدمة للتقسيم، والمستشار عبد الجليل اتهم قوى خارجية وعربية بتنفيذ مؤامرة لإفشال الثورة وتفتيت البلاد، ولكنه لم يسمِّ أيا من هذه الدول، فهل يقصد بريطانيا أم فرنسا ساركوزي وبرنارد هنري ليفي، فيلسوف فرنسا والثورة الليبية، أم إنه يقصد المملكة العربية السعودية التي تلكأت طويلا في الاعتراف بمجلسه الوطني الانتقالي؟ نترك الإجابة للأيام المقبلة عندما تتضح ملامح المخطط الجديد لتقسيم ليبيا.. أليس مؤلما أن توحدها الديكتاتورية وتقسمها الثورة الديمقراطية أو تكاد؟