لا نعتقد أن الرئيس السوري بشار الأسد سيسعد بنتيجة الاستفتاء على الدستور الجديد التي وصلت نسبتها إلى تسعين في المائة، بقدر سعادته بالأنباء التي حملتها وكالات الأنباء يوم أمس (يقصد الاثنين) عن حدوث انشقاق في قمة المجلس الوطني السوري وانسحاب عشرين من أعضائه، بينهم المحامي الشهير هيثم المالح والسيدان كمال اللبواني ووليد البني، علاوة على السيدة كاترين التللي، ومعظم هؤلاء، وخاصة الثلاثة الأوائل، قضوا سنوات في سجون النظام القمعي وتعرضوا لكافة أنواع التعذيب على أيدي جلاديه. خطورة هذا الانشقاق تأتي من كونه جاء بعد الفشل الذريع الذي انتهى إليه اجتماع أصدقاء سورية في تونس. أصدقاء سورية لم يقدموا إلا القليل إلى السوريين، مجرد بيان هزيل وحزمة من الخلافات وخطابات مكررة، بينما تتفاقم الأزمة الإنسانية في سورية في المدن المحاصرة من قبل قوات النظام، وتتصاعد أرقام الضحايا، بحيث لم تعد تلفت الاهتمام بالقدر المطلوب مثلما كان عليه الحال في بداية الانتفاضة. الأمير سعود الفيصل، وزير خارجية المملكة العربية السعودية، طالب، ومعه رئيس وزراء دولة قطر، بتسليح الشعب السوري في مواجهة النظام، وفاجأ الجميع بالانسحاب من المؤتمر، احتجاجا على عجز الدول المشاركة فيه عن إنقاذ الشعب السوري من المذابح التي يتعرض لها. ليس من عادة المسؤولين السعوديين الانسحاب من المؤتمرات، فقد كانوا دائما يعارضون مثل هذه الخطوة، ويطالبون من يقدمون عليها بالتعقل وعدم التسرع، ويغمزون من قناتهم من حيث كونهم انفعاليين يفتقرون إلى الحكمة، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل بجدية عن أسباب هذا التحول أو بالأحرى الخروج عن المألوف في القاموس السياسي السعودي. أصدقاء سورية ارتكبوا خطيئة كبرى في حق الشعب السوري عندما صعّدوا آماله بقرب الخلاص من النظام الاستبدادي، وعقدوا المؤتمرات والاجتماعات، وذهبوا إلى الأممالمتحدة لتدويل الأزمة، وتقدموا بمشاريع قرارات لإرسال قوات دولية، ثم جاءت النتائج مخيبة للآمال تماما، وازدادت الأزمة تعقيدا وارتفعت أعداد القتلى يوما بعد يوم. صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية قالت في تقرير لها نشرته أمس الأول (يقصد الأحد) أن الحكومة السعودية لا تهمها مصلحة الشعب السوري ولا علاقة لها بمصير السكان في حمص، فسجلها على صعيد حقوق الإنسان فقير جدا، وليست معروفة بدفاعها عن الحرية والمساواة، ولاسيما أنها أرسلت قواتها لقمع الانتفاضة في البحرين، مصالح السعودية (والقول للصحيفة) موجودة في طهران، وكيفية إضعاف نظامها ونفوذه المتمدد مثل أذرع الأخطبوط في كل من سورية والعراق. نختلف مع الصحيفة البريطانية في بعض ما أوردته من نقاط، خاصة تلك التي تشير إلى عدم اهتمام الحكومة السعودية بمصلحة الشعب السوري وضحاياه في حمص وغيرها، فلا يوجد إنسان عربي لا يريد الحرية والكرامة لهؤلاء، وحقن دمائهم، ولكن ما نتفق معها في ما قالته هو القلق السعودي خاصة، والخليجي عامة، من الصعود المتواصل لإيران كقوة إقليمية عظمى في منطقة ملتهبة، وبما قد يؤدي إلى تغيير كل المعادلات الاستراتيجية فيها، ووضعه على قمة الأولويات. المملكة العربية السعودية ومعظم دول الخليج الأخرى تصرفت بطريقة «ثأرية» و«شخصية» في ما يتعلق بالعراق «العربي» الذي حاول امتلاك أسباب القوة في مواجهة الخطرين الإيراني والإسرائيلي معا حسب رؤيته الاستراتيجية ، أي العراق، وحاصرت العراق وأيدت احتلاله، حتى وصلنا إلى هذه النتيجة الكارثية الآن، نلاحظ تشابها في المشهد نفسه مع فروقات بسيطة، ونرى أن معظم هذه الدول تتعاطى مع الملف السوري بالطريقة نفسها. النظام السوري كان وما زال ديكتاتوريا قمعيا، يقتل ويعذب ويسحق كرامة شعبه عندما كان النظام المدلل لدول الخليج، تفرش له السجاد الأحمر في جميع العواصم الخليجية، ووصل الغرام به ذروته عندما قرر المشاركة في قوات عاصفة الصحراء، بعد قرار غريب وغير مسبوق من قمة عربية «مفبركة» في القاهرة لتشريع استدعاء قوات أمريكية. تسليح الشعب السوري هو محاولة للتملص من المسؤولية تجاهه، لأن هذا التسليح قد يؤدي إلى نتائج خطيرة، أبرزها زيادة أعمال القتل إلى معدلات مرعبة في صفوف الجانبين، من يعارض النظام ومن يؤيده، وفتح الباب على مصراعيه أمام الحرب الأهلية الطائفية، ليس في سورية وحدها وإنما في المنطقة بأسرها. نحن أمام تكرار فاضح للأخطاء التي ارتكبت في العراق وليبيا، وقبلهما في أفغانستان، فالصراع في سورية يتطور نحو حرب بالوكالة، أطرافها قوى إقليمية ودولية، والشعب السوري في الحالين سيكون هو الوقود الرئيسي لهذه الحرب، ومن يقول غير ذلك لا يعرف تاريخ المنطقة أو لا يريد أن يعرف، فقد حارب أعداء اليوم جنبا إلى جنب في العراق (الخليج وإيران وأمريكا)، مثلما حاربت أمريكا و«القاعدة» جنبا إلى جنب الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، وجاءت نتائج هذه التحالفات الغريبة والشاذة غير متوقعة، فها هو العراق يقدم على طبق من الأحجار الكريمة إلى إيران، وها هي أفغانستان تسقط في شبكة «الطالبان» التي تضعها أمريكا على قمة قائمة الإرهاب. السيدة هيلاري كلينتون، وزيرة خارجية الدولة التي عوّل عليها أصدقاء سورية كثيرا للتدخل في سورية، مثلما جروها سابقا للتدخل عسكريا في العراق وليبيا، بدأت تعيد النظر في موقفها، عندما صرحت يوم أمس الأول (يقصد الأحد) لمحطة «بي.بي.سي» أثناء توقفها في المغرب بأن التدخل الأجنبي في سورية قد يدفع إلى حرب أهلية في هذا البلد. وأضافت أن التدخل الأجنبي لن يمنع هذه الحرب بل قد يعجل بها على الأرجح. واعترفت بأن هناك معارضة قوية لهذا التدخل داخل سورية وخارجها، وشددت على أن ما يزيد الأمور تعقيدا عدم وجود قرار صادر عن مجلس الأمن يوفر الغطاء الشرعي لهذا التدخل. فهل هذه دعوة للنظام إلى إكمال المهمة، أم نتيجة مراجعة للحسابات وتملص من المسؤولية؟ لا يوجد أحد على وجه الخليقة يؤيد الجرائم والمجازر التي يرتكبها النظام السوري ضد شعب عريق مسالم، يطالب بحق مشروع في استعادة كرامته، ومستعد لتقديم آلاف بل مئات الآلاف منهم من أجل هذه المهمة السامية، ولكن ما لا أفهمه هو أنني لم أسمع مطلقا أن أمريكا وفرنسا وبريطانيا شاركت في مؤتمر أصدقاء فلسطين، أو حتى لأصدقاء الأقصى. كما أنني لم أسمع ولم أقرأ، وأنا القارئ الجيد، وآذاني سليمة ولله الحمد، عن إقدام الدول العربية على أي جهد لوقف حمم قنابل الفوسفور الأبيض التي كانت تسقط على رؤوس أهلنا في قطاع غزة، أو الصواريخ الإسرائيلية في جنوب لبنان. التعاطي مع الملف السوري لا يجب أن يكون من منطلق الثأر وتصفية الحسابات الشخصية، مثلما كان عليه الحال في التعاطي مع الملف العراقي، وإنما من منطلق الحرص على الأمة ومصالحها، وحقن دماء شعوبها، وكيفية نشر قيم العدالة والحرية والديمقراطية فيها. من يؤيد الثورات الديمقراطية العربية، ويريد لها النجاح فعلا، عليه أن يذهب إلى مصر واليمن وتونس بالتوازي مع حرصه على التدخل في سورية، محملا بالمليارات لدعم مشاريع التنمية والإعمار وخلق الوظائف لملايين العاطلين عن العمل، لإثبات جديته في هذا المضمار. ومن المؤسف أننا لا نرى هذا الحرص حتى الآن. التغيير الديمقراطي الحقيقي قادم إلى سورية حتما، طال الزمان أو قصر، ولن تفلح قوى النظام القمعية في منعه، ولكن التعاطي العربي الرسمي مع هذه الأزمة، وبالطريقة التي نراها، هو ما يعطي الذخيرة للنظام لممارسة المزيد من القتل وسفك الدماء وإطالة إقامته في السلطة. من يريد إطاحة النظام السوري عليه أن يكون شجاعا ومسؤولا ويبادر إلى إرسال قواته لحماية المنتفضين، لا أن يرمي بالمسؤولية إلى الشعب السوري وحده، وعليه في الوقت نفسه أن يحمل معه خريطة طريق واضحة ترسم ملامح المستقبل وخطط إعادة الإعمار، وقيادة سياسية بديلة، مقبولة وديمقراطية، وإلا عليه أن يتوقف عن خديعة الشعب السوري ويبحث عن حلول سياسية تحقن الدماء وتقلص الخسائر، إذا لم يتأت منعها.