نحن نعيش هذه الأيام الظروف نفسها التي عشناها قبل عشرين عاما عندما اجتمع القادة العرب في القاهرة تحت قبة الجامعة العربية وقرروا، بالأغلبية، اتخاذ قرار بدعوة القوات الأجنبية إلى شن حرب لإخراج القوات العراقية من الكويت، بل لا نبالغ إذا قلنا إن الملاسنات التي حدثت في أروقة الجامعة العربية أثناء انعقاد مؤتمر وزراء الخارجية العرب بعد صدور قرار بتعليق عضوية سورية هي نفسها التي حدثت في غشت عام 1990، مع فارق أساسي وهو أن الأولى كانت بين الوفد العراقي (كان رئيسه طه ياسين رمضان) ووزير خارجية الكويت في حينها (الشيخ صباح الأحمد)، وهذه المرة حدثت بين سفير سورية يوسف الأحمد ورئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني. النظام السوري كان في المرة الأولى يقف في خندق دول الخليج نفسها في مواجهة النظام العراقي، أو ما يسمى بمعسكر دول «الضد»، والأكثر من ذلك أنه أرسل قوات إلى الجزيرة العربية للمشاركة في «تحرير» الكويت أو قوات عاصفة الصحراء، وها هو التاريخ يعيد نفسه ولكن بشكل آخر، حيث يجد النظام السوري نفسه في مواجهة حلفائه، وربما عاصفة صحراء أخرى. السؤال هو: هل ستواجه سورية مصير العراق، وهل سينتهي الرئيس بشار الأسد وأركان نظامه النهاية نفسها التي انتهى إليها الرئيس الراحل صدام حسين وأركان نظامه، مع الفارق في المقارنة؟ قرار وزراء الخارجية العرب الذي اتخذ على عجل في جلسة طارئة يوم أمس الأول (يقصد السبت) يفتح الباب على مصراعيه أمام تدخل عسكري خارجي في سورية تحت عنوان حماية الشعب السوري؛ فالجامعة العربية، في السنوات العشرين الماضية، بات دورها محصورا في توفير الغطاء العربي، بغض النظر عن شرعيته من عدمها، لمثل هذا التدخل؛ هذا الدور بدأ في العراق، وبعد ذلك في ليبيا، وبات من المرجح، في القريب العاجل، أن تكون سورية المحطة الثالثة، والله وحده، ومن ثم أمريكا، يعلم من هي الدولة الرابعة. الرئيس العراقي صدام حسين كان له بعض الأصدقاء، وإن كان هؤلاء من دول ضعيفة أو هامشية (في نظر البعض) مثل اليمن والسودان وليبيا وتونس وموريتانيا، إلى جانب منظمة التحرير، ولكن المفاجئ أن الرئيس السوري، ومثلما تبين من التصويت على قرار تعليق العضوية، لم يجد صديقا يصوت ضد القرار غير لبنان واليمن، مع امتناع العراق، فحتى السودان المحاصر المفكك المستهدف لم يجرؤ على معارضة القرار، وكذلك هو حال الجزائر. إن هذا أبلغ درس يجب أن يستوعبه النظام السوري، ويستفيد منه، ويطور سياساته في المرحلة المقبلة، بل عفوا الأيام المقبلة، على أساس العبر المستخلصة منه. من المؤكد أن هناك «سيناريو ما» لهذا التدخل العسكري جرى وضعه منذ أشهر، وربما سنوات، فهذا التسرع في إصدار القرار بنزع الشرعية عن النظام السوري لا يمكن أن يأتي بمحض الصدفة، فكل شيء يتم الآن في عجالة، ابتداء من التوظيف الإعلامي الشرس، ومرورا بالتوليف المفاجئ للمجلس الوطني السوري، وانتهاء بالاجتماعات المفتوحة والمتواصلة لوزراء الخارجية العرب، وما تتسم به من حسم جريء، والدقة المحبوكة في اتخاذ القرارات. السيد نبيل العربي، أمين عام الجامعة العربية، قال إن جامعته بصدد إعداد آلية لتوفير الحماية للشعب السوري، ولكنه لم يكشف عن طبيعة وهوية هذه الآلية، هل هي عربية (هذا مستبعد) أم هي أمريكية غربية (وهذا مشكوك فيه لحدوث تغيير في الاستراتيجيات التدخلية الأمريكية) أم هي إسلامية (وهذا مرجح بعد تزايد الحديث عن دور تركي عسكري في سورية)؟ النظام السوري، وبسبب قراءته الخاطئة للوقائع على الأرض منذ أن أيّد التدخل العسكري الدولي في العراق، يسهل تطبيق هذه السيناريوهات، فقد رفض كل النداءات والنصائح التي طالبته وتطالبه بوقف الاستخدام المفرط للحلول العسكرية والأمنية الدموية، للتعاطي مع مطالب شعبه المشروعة في الإصلاح، وها هو الآن، وبسبب ذلك، أو توظيفا له، يواجه تدويل الأزمة السورية. من الصعب التكهن بطبيعة التحرك العسكري المقبل ضد سورية وإن كنا نستطيع أن نقول، من خلال تصريحات بعض رموز المعارضة السورية الذين لا ينطقون عن هوى، إن إقامة مناطق عازلة على الحدود مع تركيا والأردن، ربما تكون الفصل الأول في مسلسل التدويل؛ فمن الواضح أن هناك هرولة لمنع تحول الأزمة في سورية إلى حرب طائفية أهلية تمتد إلى دول الخليج خاصة، وضرورة حسم الموقف بسرعة. الإدارة الأمريكية تعلمت كثيرا من درسي أفغانستان والعراق، وأبرز دروسها المستخلصة أن تترك العرب يحاربون العرب، والمسلمين يحاربون المسلمين، وأن يقتصر دورها والدول الغربية الأخرى على الدعم من الخلف أو من السماء. وجرى تطبيق هذه الخلاصة بنجاح كبير في ليبيا. سورية ليست ليبيا، وما ينطبق على الثانية قد لا ينطبق على الأولى، فالنظام السوري مازال يتمتع ببعض الدعم والمساندة داخليا، حيث قطاع من الشعب يسانده لأسباب طائفية، أو اقتصادية، وخارجيا من قبل إيران وحزب الله، وبعد ذلك الصين وروسيا. ولعل أهم دروس ليبيا بالنسبة إلى النظام السوري هو إدراكه، أي النظام، أن التدخل العسكري لو بدأ ضده لن ينتهي إلا بسقوطه وربما كل رموزه، الأمر الذي قد يدفعه إلى القتال حتى الموت. نحن أمام حرب إقليمية هي الأشرس من نوعها، قد تغير خريطة المنطقة الديموغرافية قبل السياسية؛ والهدفان الرئيسيان من هذه الحرب تغيير نظامين هما اللذان بقيا في منظومة ما يسمى الممانعة، أو «الشرق الأوسط القديم»، أي سورية وإيران. والسؤال هو أين ستكون الضربة الأولى، فهل ستوجه إلى إيران أم إلى سورية، أم إلى الاثنتين في آن واحد، أي تهاجم إسرائيل إيران، وتهاجم تركيا -عضو حلف الناتو- سورية بدعم عربي؟ من السابق لأوانه الإجابة عن أي من هذه الأسئلة، ولكن الشخص الوحيد الذي يمكن أن يوقف هذه الحرب، أو الشق السوري منها، هو الرئيس بشار الأسد، إذا ما اتخذ قرارا شجاعا، وأقدم على تطبيق الخطة العربية بحذافيرها، وتجرع كأس السم الذي تجرعه السيد الإمام الخميني، رحمه الله، عندما وافق مكرها على وقف الحرب مع العراق وأنقذ بلاده، وجعلها هذا القرار قوة إقليمية عظمى بعد ذلك. نتمنى أن يتخذ الرئيس الأسد هذا القرار الشجاع وألا يعول كثيرا على المظاهرات المليونية، وأن يتخذه في اليومين القادمين وبسرعة.