بعد أربعين عاما من الحكم المطلق، وإهدار المليارات من الدولارات لدعم صورته في العالم، وعشرات المقابلات التلفزيونية المطولة، وتوزيع ملايين النسخ من الكتاب الأخضر بكل لغات الأرض، يجد الزعيم الليبي معمر القذافي نفسه بدون أصدقاء، حيث تخلى عنه الكثيرون، بمن فيهم أقرب مساعديه الذين قرروا الفرار من سفينته الغارقة. لم أقرأ مقالا واحدا في أي صحيفة عربية أو أجنبية يذكر صاحبها الزعيم الليبي بكلمة طيبة أو يعدد إنجازاته، فمن غير المعقول ألا يكون له إنجاز يتيم واحد، فالغالبية الساحقة تتحدث الآن عن ديكتاتوريته وقمعه لشعبه وفساد أسرته وبطانته. نتمنى أن يقدم إلينا الزعيم الليبي أو أحد مساعديه إجابة قاطعة توضح أسباب هذا الجحود ونكران الجميل من قبل أناس كانوا، حتى الأمس القريب، يتلقون جوائزه ويلقون المحاضرات في قاعات دارة الكتاب الأخضر أو أروقة معرض طرابلس للكتاب وغيرها من الفعاليات الثقافية والسياسية الأخرى. الرئيس الراحل صدام حسين لم يكن ديمقراطيا على الإطلاق، وسجل نظامه على صعيد حقوق الإنسان لم يكن ورديا، وغزت قواته دولة أخرى واحتلتها، وحارب دولة جارة لأكثر من ثماني سنوات، ولكن ظل هناك من يقول كلمة حق في صالحه، وشاهدنا عشرات الملايين من المواطنين العرب يتظاهرون في شوارع مدنهم وعواصمهم تعاطفا معه في مواجهة المؤامرات الأمريكية والإسرائيلية ضده. العقيد معمر القذافي يواجه ثورة شعبية تريد الإطاحة بنظامه، تتحول تدريجيا إلى تمرد عسكري يستعد الغرب لدعمه، بطريقة أو بأخرى، فهل يا ترى سيؤدي هذا التدخل الغربي، إذا ما وقع، إلى تغيير الصورة في أذهان أبناء شعبه، أو قطاعات منه، وفي أذهان المواطنين العرب؟ الأمر المؤكد أن الزعيم الليبي يتمنى ذلك، بل يراهن عليه، فتارة يحاول استخدام ورقة التخويف بتنظيم «القاعدة»، وتارة ثانية بالتلويح بورقة الاستعمار الغربي، وثالثه بورقة الفوضى، وهز استقرار المنطقة إذا سقط نظامه، وهو عدم استقرار ربما يصيب إسرائيل. لا نعتقد أن الزعيم الليبي سيجد تعاطفا شعبيا عربيا، ولكن ما يمكن ألا نستبعده هو انخفاض مستوى التعاطف الشعبي العربي مع معارضيه في حال حدوث التدخل العسكري الغربي لصالحهم في الأزمة الحالية، لأنه عندما يكون خيار المواطن العربي بين الاستبداد أو الاستعمار الغربي، فإن نسبة كبيرة من العرب لن يفضلوا الثاني لأسباب معقدة لها علاقة بتجارب مؤلمة مع هذا الاستعمار مخضبة بدماء ملايين الضحايا، مليون منهم سقطوا مؤخرا في العراق. الدول الغربية تستعد للتدخل عسكريا في الأزمة الليبية، وهو تدخل بدأ يتسارع مع خسارة قوات الثورة الليبية بعض المدن والمواقع التي سيطرت عليها، واكتساب القوات الموالية للنظام الليبي بعض الثقة في النفس، وامتصاص حالة الصدمة التي سيطرت عليها وأدت إلى ارتباكها في الأيام الأولى من الثورة. الجنرال راسمونسن، قائد حلف الناتو، كشف بالأمس (يقصد الخميس)، في مؤتمره الصحافي الذي عقده بعد اجتماع مسؤولي حلفه في بروكسيل، أن سفنا حربية عديدة تتوجه حاليا إلى مياه البحر المتوسط لمراقبة السواحل الليبية وفرض حصار بحري تحت عنوان فرض حظر على وصول أي أسلحة إلى النظام، بينما توجد في المنطقة حاملة طائرات أمريكية وثانية في الطريق. الجنرال حدد ثلاثة أمور قبل البدء في أي عمل عسكري ضد النظام الليبي: الأول: وجود حاجة كبيرة تحتم مثل هذا العمل، أي هزيمة المعارضة، أو ارتكاب قوات النظام مجازر بشرية ضد المدنيين. الثاني: توفر أساس قانوني واضح، أي صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي يؤيد التدخل العسكري. الثالث: دعم إقليمي قوي، أي من الدول العربية على وجه الخصوص. المعارضة الليبية لم تهزم، وما زالت تسيطر على مناطق عدة في ليبيا خاصة في المنطقة الشرقية، أما طائرات الزعيم الليبي فلم تقصف تجمعات مدنية بعد، وما يحدث في ليبيا الآن ليس ثورة سلمية مثلما كان عليه الحال في مصر وتونس أو في البحرين واليمن حاليا، وإنما هو حرب بين قوات نظام قمعي وحركة تمرد تقاتل بأسلحة خفيفة وثقيلة بسبب انضمام وحدات من الجيش إليها. أما إذا أتينا إلى العاملين الثاني والثالث، فإنه من الصعب صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي بفرض مناطق حظر جوي، أو الإقدام على ضربات عسكرية منتقاة (Sergecal) ضد أهداف ليبية، لأن روسيا والصين ستصوتان ضده باستخدام الفيتو، بينما ستعارضه أربع دول أعضاء غير دائمة في مجلس الأمن الدولي هي الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا ولبنان. العامل الثالث، أي توفر دعم إقليمي للعمل العسكري هو المرجح، فدول مجلس التعاون الخليجي التي تجتمع في الرياض حاليا ستساند العمل العسكري، وستعمل على استصدار قرار من اجتماع وزراء خارجية الدول العربية الطارئ غدا (يقصد السبت الأخير) في القاهرة بدعم مناطق الحظر الجوي هذه. الجامعة العربية مقدمة على انقسام خطير ربما يكون أخطر من نظيره الذي حدث أثناء اجتماع القمة الطارئ لبحث احتلال العراق للكويت. فمن المؤكد أن وزراء خارجية الجزائر وسورية والسودان، وربما مصر، سيعارضون أي تدخل دولي في الأزمة الليبية، وقد نرى يوم الأحد المقبل (يقصد أمس) معسكرين، معسكر دول «المع» وهي دول الخليج مجتمعة ومعها الأردن، ومعسكر دول «الضد» وهي الجزائر والسودان وسورية ولبنان، وربما العراق أيضا (يا للمصادفة). نحن، وباختصار شديد، أمام حرب قد تطول، وثورة شعبية تتعرض للخطف والتشويه معا، والاعترافات الغربية المتسارعة بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي، والزيارة المقبلة للسيدة هيلاري كلينتون لمدينة بنغازي للقاء المعارضة الليبية واللقاءات في واشنطن وأوربا ثم لقاء قائد المجلس، القاضي الفاضل مصطفى عبد الجليل، قد تضر بهذه الثورة أكثر مما تنفعها. لا نختلف على تقديرات الكثيرين في أن نظام العقيد معمر القذافي قد يسقط في نهاية المطاف مع تآكل ما تبقى من شرعيته وازدياد الخناق عليه، ولكن ما نختلف عليه معهم هو أنه ليس ساذجا، وهو قطعا مختلف عن رأسي النظامين المصري والتونسي في عزمه على القتال وعدم الاستسلام بسهولة. التدخل الغربي، المدعوم من قبل بعض الدول العربية، يريد إجهاض الربيع الديمقراطي العربي، من حيث استخدام النموذج الحالي كفزاعة لتشويه الثورات المقبلة، ووضع العصي في دواليبها، وتكريس المقولة الزائفة التي تربط هذه الثورات بالغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص.