الرباط محمد أحداد هل كان ابن الريف مصطفى الباكوري يظن أنه سيصير يوما الرجل الأول في حزب وصف بأقذع النعوت خلال مساره السياسي القصير، هو الذي راكم خبرة اقتصادية مهمة، وربط خلال مساره المهني علاقات مع شخصيات سياسية كبيرة؟. طبعا، كان الرجل ضالعا في هندسة القناطر والطرق، خبيرا في دهاليز الحسابات المالية. يقول عنه أصدقاؤه إن صمته يخفي رجلا صارما ودقيقا، يحب العمل في الخفاء. عرف الرجل منذ بداياته أن الحلم يربى كنتف الصوف، حيث تدرج في المدرسة العمومية، وحصل على درجات عالية مكنته من أن يغادر مع ثلة من النخب المغربية إلى بلاد الأنوار. هناك تعلم مبادئ الهندسة في مدرسة القناطر والطرق. كان الباكوري يشق طريقه بصمت، إذ لم يكن يتحدث عنه في تلك الفترة إلا الذين عاشروه ويعرفون قدرة الرجل على تفكيك العمليات الرياضية بحذاقة عالية. واصل الباكوري اجتهاده العلمي، فحصل على دبلوم الدراسات العليا المتخصصة في مجال البنوك والمالية. وقد سمح له تكوينه العلمي بأن يكوّن نظرة شاملة عن الاقتصاد المغربي. ولأنه لم تشغله ضوضاء السياسة، فقد آثر أن يبدأ مسؤولياته الاقتصادية من الصفر، وتدرج في دواليب الإدارة والمؤسسات المالية، حيث اشتغل في بداية الأمر في البنك المغربي للتجارة والصناعة، ثم مديرا للتمويل والاستغلال بالشركة الوطنية للتجهيز الجماعي. خلال هذه الفترة، تعرف الباكوري على شخصيات سياسية كبيرة، وفطن إلى أن الكفاءة العلمية وحدها لا تكفي لتقلد المسؤوليات الكبرى بالمغرب إذا لم تكن مسنودة بحس سياسي كما فعل أقرانه الذين تفوق عليهم في مدرسة القناطر. عرف مصطفى الباكوري، الذي ولد بمدينة المحمدية سنة 1964، بأنه صار لزاما عليه ربط علاقات مع رجال الدولة إذا أراد بالفعل تحقيق طموحاته المتوقدة. يقول عنه أحد أصدقائه المقربين: «كان الباكوري لا يتوانى في التعبير عن رغبته في شغل مناصب كبرى كأي مهندس طموح يرى أقرانه الذين تفوق عليهم أفضل منه، لكنه، رغم ذلك، ظل دائما صامتا، لا يتحدث كثيرا». هدوء الباكوري كان يخفي بين ثناياه رجلا عنيدا، ينجز أعماله بدقة متناهية. رجل مهووس بالتنظيم إلى أقصى درجة، حتى إن أصدقاءه باتوا يطلقون عليه لقب «عدو الفوضى». عنيد إلى أقصى الحدود، كيف لا وهو الذي ساند علي المرابط الموقوف عن الكتابة، صاحب جريدة «دومان»، رغم كل الضغوطات التي مورست عليه لوقف دعمه المالي للشركة التي تصدر الجريدة. وهي النقطة التي كادت تعصف بمستقبل الرجل لولا أنه عرف في وقت لاحق كيف يكيّف مؤهلاته وخبرته مع طبيعة «دار المخزن». سارت الأمور على هذا المنوال، وكبرت أحلام الباكوري، وصقل وعيه السياسي قليلا، وكان في كل مرة يحاول أن يقترب من السياسة، لكن دون أن يتخذ لنفسه يافطة حزبية تقزمه وتحاصره. انضم في البداية إلى جمعية «مغرب 2020»، التي ضمت ثلة من المثقفين السياسيين الحالمين. لكن حلم الباكوري كان أكبر بكثير من أن يكون عضوا في جمعية سماها أحدهم يوما بجمعية «الطوباويين». ولذلك كان ينتظر فرصة تستوعب أحلامه وتستجيب لبراغماتيته التي نحتتها الدوال الرياضية. ثم جاء الفرج، حيث وجد ضالته في «حركة لكل الديمقراطيين» أو «نادي التأمل» كما سماها عباس الفاسي، فكان الباكوري أبرز الموقعين على ميثاق الحركة، واعتبر يومها قياديا في أجهزتها. وقتها عرف الجميع أن «حركة لكل الديمقراطيين»، التي قادها فؤاد عالي الهمة، ستتحول في وقت لاحق إلى حزب سياسي، لكن ليس بتلك القوة التي ظهر بها في أول انتخابات جماعية يخوضها الحزب. في هذه الفترة بالذات، توطدت علاقة الباكوري بالرجل النافذ إلياس العماري بحكم انتمائهما إلى نفس المنطقة، فالباكوري يتحدر من منطقة تقع بين تاونات والحسيمة. تعرفه على العماري جعل الباكوري يعيد «حساباته السياسية» وينفتح على الواقع الحزبي المغربي، حيث لم يجد حرجا في الانضمام إلى حزب الأصالة والمعاصرة، وحضور مؤتمره التأسيسي. يحمل الباكوري البطاقة رقم 298 في سجلات منخرطي الحزب، إذ كان من الأوائل الذين ركبوا «الجرار»، رغم «الخلطة العجيبة» التي طبعت مكوناته. قبل أن يلتحق بحزب «البام»، كان الباكوري يشغل منصب المدير العام لصندوق الإيداع والتدبير، أحد أكبر المؤسسات المالية التي تسيرها الدولة، وقد قضى على رأسه أكثر من 8 سنوات، قبل أن ينزل عليه خبر فيما بعد كالصاعقة: إعفاؤه من رئاسة صندوق الإيداع والتدبير. ويرجع السبب، حسب البعض، إلى ظهوره أثناء الإعلان عن نتائج الانتخابات الجماعية إلى جانب قيادات من الأصالة والمعاصرة في مقر الحزب. علم الرجل، الذي يحكى أنه تلقى خبر إعفائه برسالة هاتفية قصيرة، آنذاك أن للسياسة ضريبة ثقيلة، لكنه مع ذلك لم يبق طويلا في غرفة الانتظار، إذ عينه الملك محمد السادس فيما بعد على رأس أكبر مشاريع الطاقة المتجددة في إفريقيا، وتبددت في الحين بعض التكهنات التي كانت تشير إلى غضبة ملكية على الرجل. بعد الفترة العصيبة التي مر منها حزب الأصالة والمعاصرة وبعد انسحاب مؤسسه فؤاد عالي الهمة، فكر الجميع في هوية الأمين العام الذي سيخلف الشيخ بيد الله على رأس الحزب، فتراوحت التوقعات بين بنشماس والوديع واخشيشن، لكن لا أحد كان يعلم أن الباكوري، رجل القصر، كان يهيء نفسه لشغل هذا المنصب. فقد بدت الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام في البداية مزحة تريد خلق بلبلة وسط الحزب، لكن سرعان ما تحولت هذه المزحة إلى حقيقة فاجأت الجميع، حتى بعض القياديين في الحزب مثل خديجة الرويسي وحكيم بنشماس.