تتذكر كل «الأجيال القديمة»، التي تلقت تعليمها إبان عقود قبل الثمانينيات، «بحسرة»، صورة المعلم الصارم والعنيف، والذي تعتبر أساليب مثل «الفلقة» والضرب بالمسطرة الخشبية على الأظافر والضرب بقضبان المعدنية على مؤخرات التلاميذ.. «طقسا» يوميا عنده، فبالنسبة إلى هذه الأجيال فإن «أساليبَ» مثل هذه هي التي خلقت تميز مدرسة هذه العقود. وفي المقابل، ينظرون بريبة إلى كل الدعوات التي ترسخ مركزية التلميذ في العملية التربوية ويربطون تدنّي مستويات التلاميذ بتراجع «صرامة» المُدرِّسين وانتشار خطاب «حقوق التلاميذ». إذا وضعنا مسافة إزاء هذا الربط العِلّي (من العلة) بين الصرامة والنتائج وحاولنا أن ننظر إلى مشكلة العلاقة بين التربية والسلطة نظرة موضوعية، فإنه السلطة في التربية لا تكون مشكلة إلا في السياقات الاجتماعية المتشبعة بقيّم الحداثة والديمقراطية، والتي تضمن حقوق الطفل، بينما يكون الأمر محسوما قبليا في السياقات المحافظة، بل ولا مفكَّرا فيه حتى.. وليست لجوهر سؤال السلطة في التربية علاقة باختياراتنا التقنية لكيفية التدريس، من قبيل تفضيل التدريس بهذه الطريقة، بدل التدريس بالطريقة الأخرى، بل يظل الإشكال قائما والإحراج شاخصا، حتى ونحن نسعى إلى تنمية الكفايات بدل شحن الذاكرة، حسب ما تنص عليه الاختيارات البيداغوجية الحديثة. لقد قسمت هذه الإشكالية المجتمع، وخاصة المثقفين، إلى فريقين: فريق يعتبر أن كل ما من شأنه أن يمس حرية الطفل وحقوقه الإنسانية، بما في ذلك الحق في الحياة الخاصة والحق في التدين واللباس والتعبير وغيرها، يعتبر انقلابا على قيّم الحرية والمساواة في الإنسانية، التي رسّخها فلاسفة الأنوار. فوفق هذا الفريق، لا فضل للمُدرِّس على التلميذ، بل ولا حق له عليه أصلا، وكل شكل من أشكال السلطة التي تُمنَح للمُدرِّس ل«ضبط» التلميذ والحد من حريته هو خطوة إلى الوراء وتخَلٍّ صريح عن الحداثة. أما الفريق الآخر فينظر إلى تدابير إعطاء السلطة للمدرس مكسبا لا ينبغي التنازل عنه، بل ويطالب بالمزيد منها، في اتجاه إحياء «تقاليد» تربوية «كنسية» صارمة، محاججا بكون التربية تختلف في طبيعتها عن المجال العمومي، ففعل التربية يفترض التزاما وانضباطا، وبالتالي فمقولات مثل التسلط والتوجيه العمودي والوصاية هي مقولات «طبيعية» في التربية. وحسب أصحاب التوجه المحافظ، فإن دعاة إدماج حقوق الطفل في المدرسة يقعون في تناقض صارخ، فهم يشددون، من جهة، على حرية التلميذ ويلحون على مساواته بالمُدرّس في كل أبعاد انتمائهم الإنساني، ومن جهة أخرى، يتعاملون بتشنج مع التلاميذ الذين يرفضون الالتحاق بالمدارس. وهم بهذا ينسون أن تشديدهم على حرية التلميذ يتضمن أيضا حرية التعلم وعدم التعلم، وبالتالي فمن يدافع على حرية التلميذ (حسب دعاة إرجاع السلطة للمدرس) يجب أيضا أن يدافع على حريته في عدم رغبته في التعلم أصلا، فكلا الأمرين حرية.. ويجب، أيضا، إشراك كل تلميذ في المقرر الدراسي الذي يريده، فالدفاع عن الحرية يقتضي هذا وأكثر.. نستنتج من هذا النقاش أنه إذا كانت الديمقراطية وفلسفة حقوق الإنسان قد أفادت المجال العمومي فإنها، من الناحية التربوية، خلقت مشكلة، بل وأزمة، حسب المفكرة الألمانية حنا أرندت، لنتساءل: أين نحن في المغرب من هذا النقاش؟!.. ما يلاحظ هو أن المدرسة المغربية سعت إلى إدماج مجموعة من المقولات المنتمية إلى فلسفة حقوق الإنسان، وتم إقرار رزمة من المفاهيم التربوية، تنتظم كلها حول مركز جديد للفلك التربوي، وهو التلميذ -المواطن، المنفتح على محيطه والفاعل فيه، والحامل لقيم مجتمعية كالحق والواجب، فبدأنا نغير جهازنا المفاهيمي التربوي ونكيفه مع هذا المركز الفلكي الجديد، فبدل التلميذ، نستعمل المتعلم، بل وأضحينا نعتبره مركز عملية التعلم، وبدل المعلم والمدرس نستعمل مفاهيم كالمنشط والموجه، وبدل الدرس، «الكاتدرائي»، أضحينا نستعمل مفاهيم كبيداغوجيا حل المشكلات والمشروع... وبدل التوجيه التربوي أصبحنا نتكلم عن التربية على الاختيار وصرنا نتخلى عن «ثقافة قف للمعلم وفِّهِ التبجيلا» لصالح ثقافة التعاقد البيداغوجي، وأضحينا حريصين على تكافؤ الفرص في بناء التعلمات وتقويمها وعلى الدعم التربوي، وأصبح المدرس مُطالَبا بأن يكون واعيا بتعدد الذكاءات وأن يحتاط من أحكام القيمة تجاه التلاميذ غير المتفوقين، فهم ليسوا أقل ذكاء، وأصبحنا نطلب من المدرس، أيضا، أن يكون فاعلا في لجن الإنصات إلى التلميذ والتكفل به.. بل وتم إقرار التربية على حقوق الإنسان في أغلب المستويات الدراسية.. كل هذا التحول «القسري» في المفاهيم والمقولات لم يقابله نقاش حول ما إذا كنا على استعداد للتخلي عن سلطتنا التربوية أو عن مركزيتنا، الراسخة فينا لصالح المركز الجديد، فقد أقبلنا على هذه المفاهيم ب»نهم» دون نقد ومساءلة، فانبرى بعضنا لشرحها وتلخيصها وتفسيرها والتبشير بها.. لكننا لم نسأل هل المدرس والإداري والأسرة على استعداد للتخلي عن سلطتهم التربوية؟!.. وهذا سؤال جوهري تتوقف عليه نجاعة ما تأبّطناه من عدة منهجية ومفاهيمية، نهدف من خلالها إلى الدفاع عن حقوق الطفل -المتعلم، فعدم طرحنا سؤالا بهذه الجذرية يجعل المشتغلين في حقل التربية في المغرب ينقسمون إلى فريقين، لكنْ ليس على شاكلة التقسيم الفرنسي، الفريق الأول يرجع إلى نموذج «سنوات الرصاص»، ليدافع عن سلطة المدرس وهيبته وكاريزميته، والفريق الثاني ينط إلى الأمام، ليدافع عن مركزية المتعلم وعن حرية الطفل وتكافؤ مرتبته في التعلم مع المدرس ولكنه، في المقابل، يمارس عكس ذلك.