رغم كل ما يقال في مراكز تكوين المدرسين، بمختلف أسلاكهم، عن أهمية اعتماد مدرس المستقبل على الطرائق البيداغوجية المعاصرة وكذا عن أهمية اجتهاده في تحصيل مفاهيمها فهما وتطبيقا، فإن التكوين المعرفي للمدرس يبقى أمرا لا ينبغي التساهل فيه، فالمدرس ذو التكوين المعرفي الهزيل والضحل في المعارف الأساسية، والتي تعتبر بالضرورة بمثابة الواجب من مادته، لا يمكنه، بأي حال من الأحوال، أن ينجز درسا ناجحا، إن من الناحية البيداغوجية أو الديداكتيكية. ومهما كانت طرائق التدريس التي سيعتمدها مدرس المستقبل هذا، فإن ضعف تكوينه الأساسي سيجعل منه كل شيء إلا أن يكون مدرّساً مربيا، فقد يكون «مهرجا» يحول فصوله إلى ساحة «جامع الفنا» مصغَّرة، حيث يتصرف الجميع «على هواه».. أو قد يكون تصادميا، فيتحول الفصل إلى «فلوجة» مصغرة، إذ إن عدم امتلاكه السلطة المعرفية يجعله فاقدا لكل صفة اعتبارية لدى تلامذته، أو قد يلجأ هذا المدرس إلى حل آخر هو شراء «السلم» بالنقط المرتفعة، فيتحول فصله إلى «جمعية خيرية» ولحظات وضع النقط إلى لحظات ل«البر والإحسان»، فلا ينجز الفروض أو لا يصححها أو يترك التلاميذ يفعلون ما يشاؤون في فروض المراقبة المستمرة، ليبرر «بره وإحسانه» للجهات الوصية، بل إن هناك حالات يضطر فيها المدرس لشراء «السلم» ماديا، عبر تقديمه «إتاوة» شهرية ل«كبير» المشاغبين في القسم.. وإذا أردنا عدَّ الحالات المرضية التي يكون فيها المدرسون فاقدين لهويتهم التربوية في ميدان التدريس العمومي المغربي، فإن المقام سيضيق بنا، لعلة واحد ووحيدة وهي أن فاقد المعرفة لا يعطي تربية ولا تعليما!... إن خطورة موضوع كهذا تتجلى في جدار الصمت واللامبالاة التي يتصرف بها بعض المتدخلين في العملية التربوية، حيث يصادف بعض المفتشين، مثلا، حالات كثيرة لمدرسين يحتاجون تكوينا عاجلا في قضايا أو معارف معينة، ويصادف الإداريون حالات كثيرة لمدرسين يتلاعبون بالنقط، إنْ بالمبالغة في المعدلات لشراء «السلم» أو العكس للانتقام، ولا يتحملون مسؤولياتهم لتنبيه المدرس المعني بالأمر وتوجيهه للصواب. إن التكوين المعرفي ينبغي أن يكون ذا أولوية لدى فرق التكوين في مراكز ومدارس تكوين المدرسين، فهو قبل كل التكوينات في مجال البيداغوجيا والديداكتيك والتشريع وغيرها من التكوينات، إذ إن هناك فرقا أساسيا بين أن يخطئ مدرس ما في التعامل التربوي مع تلميذ أو في بناء درس، من جهة، وبين أن يخطئ في المعارف، فمثلا إذا تعامل بقسوة مع تلميذ واستوعب ذلك، فإن بإمكانه استدراك الأمر بأكثر من طريقة وانتهت المشكلة، والأمر أيضا إن أخطأ في صياغة الأسئلة أو في التنقيط، لكن إذا كان المدرس في حالة من الجهل المركّب، حيث يمرر وهو كله يقين مجموعة من الأفكار الخاطئة للمتعلمين، فهذا أبلغ أثرا ليس على جودة درس المدرس فحسب، بل قد يصل الأمر إلى أن يرهن مستقبل التلميذ كله، فكم من مدرس أضحى كالأفعى يبث سموم ضُعفه المعرفي في عقول تلامذته. نرجع ونقول إن هذا الأمر يقابَل بالكثير من النكران والصمت، لكون من ينظر اليوم خاصة إلى واقع حال الجامعة المغربية سيغنيه ذلك عن مناقشة ما سبق من قولنا، حيث تم «اختصار» الإجازة في ثلاث سنوات بدل أربع، ثم انتشار وذيوع تكوينات جامعية هزيلة، لأسباب تتعلق أحيانا بالكم الهائل للطلبة المسجَّلين في بعض الشُّعب، حيث تجد ما يفوق ال0001 طالب في الشعبة الواحدة، حيث لا يتسنى للأستاذ الجامعي تبليغ معارفه وتوجيه طلبته في بحوثهم وقراءاتهم، إنْ كانت لهم بحوث وقراءات طبعا.. فمثلا، هناك أساتذة يضطرون لتأطير أكثر من أربعين طالبا في سلك الإجازة، والحل الذي يلجأ إليه أغلب هؤلاء عندما يكونون في حالات كهذه هو أنهم لا يقرؤون البحوث نهائيا ويكتفون بإلقاء ملاحظات عامة هنا وهناك، كما يمكن أن تتعلق أيضا باستمرار التسيب في الجامعة المغربية، إذ يُنجَز ما يشبه الدروس، دون رقيب ولا حسيب. وارتباطا بالتكوين المعرفي للمدرس، هناك أيضا حالات على نقيض ما سبق، حيث يبادرون إلى مداراة ضعف تكويناتهم باستعمال عبارات غامضة وتعابير منقرَضة، فيطلون على تلامذتهم من برج معرفي عاجي، أو هكذا يتوهمون، لكن ما ينساه هذا النوع هو أنهم مدرسون في مدرسة عمومية وأنهم مدرسون لمواد دراسية حاملة لقيم ومعارف تستهدف متعلمين مختلفين عنه بكل المقاييس، وليسوا، بأي حال من الأحوال، منتجين للمعرفة، ليسوا عالمين بل مدرسي علوم، وليسوا أدباء بل مدرسي آداب، وليسوا لسانيين بل مدرسي لغات.. وليسوا رياضيين بل مدرسي رياضيات، وليسوا فلاسفة بل معلمي فلسفة.. لسنا هنا من دعاة الإغراق في بحر الديداكتيك الجارف، بل نؤكد أساسا أن الحاجة مُلحّة لإحداث قطيعة تامة مع نسق من المواقف والأحكام والتصورات المقاومة للاستمرار في التكوين المعرفي للمدرس، حيث يركن هذا الأخير ويطمئن لنماذج من التصورات المغلقة والمطمئنة إلى ثوابت أخلاقية ومعرفية صارمة، تنتمي إلى جيل المعلم لا إلى جيل المتعلم، وتنتمي إلى زمن إنتاج المعرفة لا إلى زمن تعلم المعرفة وإلى زمن الحقيقة الواحدة والمطلقة لا إلى زمن نسبية الحقائق وتعددها وإلى زمن الكاريزما لا إلى زمن التواصل والتوجيه والبحث والإنصات والتنشيط، وهي عُدّة المدرس المعاصر. إن المدرس الذي لا ينصت ولا يدرك الإشراطات البشرية للمتعلم، وغير القادر على تنمية قدراته البحثية والمعرفية والسلوكية لا يمكن، في أي حال من الأحوال، أن ينتمي إلى عصره، بل هو معلم مغترب ومستلَب، إنه شيخ صوفي تخلى عنه الزمن في مدرسة مدنية أو صاحب مخرقة بلغة القدماء، فرضت شروط المباريات في مراكز التكوين أن يكون مُدرّساً في مدرسة عمومية و«كلاهما في البحر ماء»، بتعبير درويش، رحمه الله.