هذا السؤال هو الوجه الثاني لموضوع «أزمة التربية»، الذي تم تناوله في عمود الأسبوع الماضي، وهو سؤال محرج للغاية، لأنه يرمي إلى إعادة فحص مسألة السلطة في التربية، وهو لا يكون محرجا بالفعل إلا في السياقات الاجتماعية المتشبعة بقيم الحداثة والديموقراطية والتي تضمن حقوق الطفل، بينما يكون الأمر محسوما قبليا في السياقات المحافظة، بل لامفكرا فيه حتى. وجوهر سؤال السلطة في التربية ليست له علاقة باختياراتنا التقنية لكيفية التدريس، من قبيل تفضيل التدريس بهذه الطريقة بدل التدريس بالطريقة الأخرى، بل يظل الإشكال قائما والإحراج شاخصا حتى ونحن نسعى لتنمية الكفايات بدل شحن الذاكرة، بحسب ما تنص عليه الاختيارات البيداغوجية الحديثة. والموضوع اليوم مطروح بحدة في فرنسا منذ السبعينيات، وازداد حدة مع مجيء الرئيس الحالي، الذي دفع حكومته إلى تبني اختيارات محافظة تعيد للمدرس سلطته الرمزية، كوقوف التلاميذ أثناء دخوله، والسماح بأشكال معينة من العقاب، وتبني إجراءات صارمة لضبط تحركات التلاميذ ومراقبة حضورهم وهندامهم إلى غير ذلك، فهذه الاختيارات لو تبنتها حكومة دولة خليجية مثلا، لكان الإجراء سيحظى بإجماع قوي لكون هذه المنطقة تعيش تسلطا كليانيا يشمل جميع المجالات، لكن أن تتخذها دولة قائمة على إرث الأنوار ومجده، فإنها قسمت المجتمع وعموم المثقفين إلى فريقين: فريق يعتبر أن كل ما من شأنه أن يمس حرية الطفل وحقوقه الإنسانية، بما في ذلك الحق في الحياة الخاصة و الحق في التدين واللباس والتعبير وغيرها، يعتبر هذا المساس انقلابا على قيم الحرية والمساواة في الإنسانية التي رسخها فلاسفة الأنوار. فوفق هذا الفريق لا فضل للمدرس على التلميذ، بل لا حق له عليه أصلا، وكل شكل من أشكال السلطة التي تمنح للمدرس لضبط التلميذ والحد من حريته هو خطوة للوراء وتخل صريح عن الحداثة. أما الفريق الآخر، فينظر إلى تدابير إعطاء السلطة للمدرس مكسبا لا ينبغي التنازل عنه، بل يطالب بالمزيد منها في اتجاه إحياء تقاليد تربوية كنسية صارمة، محاججا بكون التربية تختلف في طبيعتها عن المجال العمومي، ففعل التربية يفترض التزاما وانضباطا، وبالتالي فمقولات مثل التسلط والتوجيه العمودي والوصاية هي مقولات طبيعية في التربية. وحسب أصحاب التوجه المحافظ، فدعاة إدماج حقوق الطفل في المدرسة يقعون في تناقض صارخ، فهم من جهة يشددون على حرية التلميذ ويلحون على مساواته بالمدرس في كل أبعاد انتمائهم الإنساني، ومن جهة أخرى يتعاملون بتشنج مع التلاميذ الذين يرفضون الالتحاق بالمدارس، وهم بهذا ينسون أن تشديدهم على حرية التلميذ يتضمن أيضا حرية التعلم وعدم التعلم، وبالتالي فمن يدافع عن حرية التلميذ (حسب دعاة إرجاع السلطة للمدرس)، يجب أيضا أن يدافع عن حريته في عدم رغبته في التعلم أصلا، فكلا الأمرين حرية. ويجب أيضا إشراك كل تلميذ في المقرر الدراسي الذي يريده، فالدفاع عن الحرية يقتضي هذا وأكثر. نستنتج من هذا النقاش أنه إذا كانت الديموقراطية وفلسفة حقوق الإنسان قد أفادتا المجال العمومي، فإنهما من الناحية التربوية خلقتا مشكلة، بل أزمة حسب المفكرة الألمانية «حنا أرندت»، لنتساءل أين نحن في المغرب من هذا النقاش؟ ما يلاحظ هو أن المدرسة المغربية سعت إلى إدماج مجموعة من المقولات المنتمية لفلسفة حقوق الإنسان، وتم إقرار رزمة من المفاهيم التربوية تنتظم كلها على مركز جديد للفلك التربوي، وهو التلميذ/المواطن، المنفتح على محيطه والفاعل فيه، والحامل لقيم مجتمعية كالحق والواجب، فبدأنا نغير جهازنا المفاهيمي التربوي ونكيفه مع هذا المركز الفلكي الجديد، فبدل التلميذ نستعمل المتعلم، بل أضحينا نعتبره مركز عملية التعلم، وبدل المعلم والمدرس نستعمل مفاهيم كالمنشط والموجه، وبدل الدرس العمودي أضحينا نستعمل التعلمات وبدائل بيداغوجية أخرى كالحوار الأفقي والعمل بالمشروع والتعلم الذاتي، وبدل التوجيه التربوي أصبحنا نتكلم عن التربية على الاختيار، وأصبحنا نتخلى عن ثقافة «قف للمعلم وفيه التبجيلا» لصالح ثقافة التعاقد البيداغوجي، وأضحينا حريصين على تكافؤ الفرص، في بناء التعلمات وتقويمها والدعم التربوي، وأصبح المدرس مطالبا بأن يكون واعيا بتعدد الذكاءات وأن يحتاط من أحكام القيمة تجاه التلاميذ غير المتفوقين، فهم ليسوا أقل ذكاء، وأصبحنا نطلب من المدرس أيضا أن يكون فاعلا في لجن الإنصات للتلميذ والتكفل به.. بل تم إقرار التربية على حقوق الإنسان في أغلب المستويات الدراسية، كل هذا التحول القسري في المفاهيم والمقولات لم يقابله نقاش حول ما إذا كنا على استعداد للتخلي عن سلطتنا التربوية، أو التخلي عن مركزيتنا الراسخة فينا لصالح المركز الجديد، فنحن أقبلنا على هذه المفاهيم بنهم دون نقد ومساءلة، فانبرى بعضنا لشرحها وتلخيصها وتفسيرها... والتبشير بها، لكننا لم نسأل هل المدرس والإداري والأسرة على استعداد للتخلي عن سلطتهم التربوية؟ وهذا سؤال جوهري تتوقف عليه نجاعة ما تأبطناه من عدة منهجية ومفاهيمية، والتي نهدف من خلالها إلى الدفاع عن حقوق الطفل/المتعلم.