«اللباس البرتقالي والسلاسل الحديدية واللاصق الأسود هي تلك الصور التي شاهدناها ولا نزال نشاهدها للمعتقلين الذين أطلقت عليهم الولاياتالأمريكية لقب «الإرهابيين». صور تثبت لنا حجم الضبابية الذي لا يكاد يزول عن ادعاءات الولاياتالمتحدة المزيفة والحقائق، التي طالما رآها البعض في أمريكا باعتبارها راعية حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والمعتقدات الدينية. حقائق يكشف عنها إريك سار (رقيب في الجيش الأمريكي وأحد المحققين في غوانتانامو بعد فترة ستة شهور قضاها مع المعتقلين) والصحفية فيفكا نوفاك (مراسلة صحيفة «واشنطن بوست» وعضو الجمعية الأمريكية لحقوق الإنسان والحريات المدنية). حقائق تبين لنا مقدار الغطرسة الأمريكية في جحيم غوانتانامو، الذي بدأت السلطات الأمريكية باستغلاله مع بداية سنة 2002 بعد احتجاز من تشتبه في كونهم إرهابيين ينتمون إلى تنظيم القاعدة. حقائق تكشف لنا جوانب مظلمة وممارسات وحشية وأساليب منافية للمواثيق والأعراف الدولية تجاه المعتقلين. خمس وأربعون دقيقة مع طبيب نفسي عسكري كانت هي كل التدريب الذي سنحصل عليه حول العواقب العاطفية للعمل في غيتمو، خمس وأربعون دقيقة فقط من طبيب نفسي عسكري كان من المفترض أن تهيئنا لمواجهة أفراد قيل لنا إنهم ساعدوا في التخطيط لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وهي نفسها الدقائق التي ستهيئنا كذلك للتعامل مع الحالات الذهنية لرجال يتعرضون لتحقيق مكثف وهم في الأسر على تراب أجنبي، لكن تلك كانت طريقة الجيش، كما جربتها عدة مرات من قبل، وهنا بادر مارك قائلا وباستهزاء تقريبا: «مثير للاهتمام يا سيدي، أشعر الآن بأنني مستعد عقليا وعاطفيا لمواجهة الأشرار». كنت أريد أن أتكلم كما تكلم مارك وأعبر عن رأيي هنا، لكنني تخوفت من ردة فعل الطبيب وقائد المجموعة كذلك، فقد كنت جنديا ملتزما بالتعليمات ولا أستطيع خرقها أو محاولة خرقها، لكنني كنت أستمتع بنوبات ثورة مارك، وتساءلت مع نفسي فيما إذا كان قد تعرض لأي متاعب بسبب ذلك، لكن كلمات الكابتن منصور أخذت تعلو وهو يطالبنا بالانضمام لفريق العمل داخل الزنزانات بعد الظهر. المهمة الأولى تفرق الجمع باتجاه قاعة الغداء تغمرهم اللهفة لرؤية العدو (كما كان يردد مارك دائما)، وهناك على مائدة الغداء، اصطفت أنواع كثيرة ومتعددة من الأطباق التي كانت ترحب بنا، أطباق السلطة واللحم والمقبلات تتلاصق جنبا إلى جنب مع أطباق الحلوى وعلب الكوكا كولا والبيبسي وغيرها. وهناك أيضا (على طاولة الغداء)، قابلنا فانيسيا، رئيسة نوبة خدمة الزنزانات، وكان هناك أيضا مو وتورك وآدم وغيرهم من أعضاء مكتب اللغويين، الذي يعتبر واحدا من عدة غرف يحتويها ذلك المبنى الصغير، الذي يمتد على طول إثنى عشر قدما وعرض عشرة أقدام، والذي تفرش أرضيته بطاولة معدنية وبعض الكراسي القابلة للطّي، ولوح أبيض يغطي جدرانه مخصص لكتابة اسم أي عضو جديد يدخل ذلك المكتب أو تتطلب الحاجة حضوره. وكانت هناك أيضا مكتبة صغيرة تحتوي على بعض القواميس التي قد تفرض الحاجة إليها أثناء الترجمة. لم يكن قد مضى على وصولي أنا ومارك ومو إلى ذلك المكتب (مكتب اللغويين)، بعد تناول وجبة الغداء، سوى دقائق قليلة عندما طلب أحد اللغويين، بناء على طلب أحد المعتقلين، ليقوم بالترجمة، فسارع مو للذهاب متطوعا بذلك، طالبا مني مرافقته في تلك المهمة الأولى بالنسبة لي فوافقت على الفور. سرنا باتجاه الزنزانة عبر ممر تملأه حبات الحصى، التي تغطي أرضيته، والتي لا تقدر ولا تحصى، قبل أن نصل إلى أولى البوابات الحديدية التي يحرسها أحد عناصر الشرطة العسكرية، والتي من خلالها سنصل إلى مجمع الزنزانات حيث المعتقلين، فتحت لنا البوابة الأولى ثم الثانية فالثالثة والأخيرة، قبل أن نصل إلى أحد العناصر العسكرية الذي سيفتح لنا الباب الأخير للولوج إلى المعتقل وزنزانته. لم يكن ذلك الباب الأخير سوى باب مجمع الزنزانات المسمى «مجمع إيكو»، قبل أن يردف ذلك العنصر بالقول: في أي زنزانة يوجد المعتقل الذي طلب المترجم فأجابه مو على الفور إنها الزنزانة رقم 5. كانت أرضية مجمع الزنزانات المعدنية تطلق صدى عندما كانت أحذيتنا العسكرية اللماعة ترتطم بها، وكانت زنزانات من الشبك الفولاذي الأخضر الشاحب تمتد على طول المجمع على الجانبين، وكان في كل زنزانة معتقل واحد وتوجد بطاقات باسم كل معتقل على باب زنزانته، كانت الزنزانات صغيرة بطول ثمانية أقدام وعرض ستة أقدام ونصف القدم، وفيها أسرة معدنية مثبتة على الجدران الشبكية الفولاذية، وكانت هناك حمامات صغيرة مثبتة على الأرضية، والمغاسل منخفضة نحو الأرض (كنت على وشك أن أسير إلى وسط حوالي 600 رجل، جميعهم تربطهم كراهية مزعومة للولايات المتحدة، ولم أكن أشك أنهم سيقتلونني لو أتيحت لهم الفرصة، فبعضهم ربما كان قد ساعد في التخطيط لاختطاف تلك الطائرات والآن أنا قادم لأراهم وجهاً لوجه). كانت الرائحة لا تحتمل ونحن نمشى بين الزنزانات، ولم أكن أعرف كيف يتحمل هؤلاء المعتقلون تلك الرائحة الكريهة وكنت أستغرب كذلك كيف أن عناصر الشرطة العسكرية التي تحرس تلك الزنازين لم تقم بإزالة تلك الرائحة عبر مواد تنظيف أو ما شابه. ورغم ذلك كله، لم يكلف معظم المعتقلين أنفسهم حتى مشقة النظر إلينا، لكن بعضهم نظر إلي بفضول، ربما لأنني لا زلت جديدا ولم تعتد أعينهم علي بعد، حاولت أن أراقبهم دون أن أنظر في عين أي منهم، لم أكن مستعداً كفاية بعد، فبعضهم كان يقرأ القرآن، وبعضهم كان يصلي وبعضهم كان يحمل في يده كتابا ويهم بقراءة سطوره. كان ذلك المشهد مؤثرا بالنسبة لي في ظل هذه الظروف القاسية، حيث الزنازين الضيقة والحرارة المفرطة والمعاملة السيئة من طرف عناصر الشرطة العسكرية وبعض المحققين، ومع ذلك لا يزال هؤلاء يتمتعون بإرادة وعزيمة كبيرتين. كان المعتقل الذي طلبنا في منتصف الثلاثينات من العمر، ذو لحية سوداء طويلة مع بعض الشيب فيها، فقلت له السلام عليكم: فقال وعليكم السلام وبدأ بالقول (مشتكيا): لقد طلبت رؤية الطبيب لكن اسمي لم يدرج على اللائحة، أريد أن اعرف السبب؟، وفيما كنت أستمع، وأختبر نفسي لأعرف كم أفهم، بدأ معتقل آخر على بعد أربع زنزانات يصيح: «أيها المترجم، أيها المترجم». قال لي مو «إيريك، لماذا لا تذهب وترى ماذا يريد؟؟ أخذت نفساً عميقاً وقلت: «ذلك سيكون ممتعاً، لكن لا تناديني إريك فأنا اسمي بسام». مشيت إلى المعتقل وقلت: أهلاً وسهلاً. شو أنت عايز؟ ففوجئ لأنني أتكلم العربية. وسألني: «أنت جديد، من أين أنت؟ تجنبت الحديث عن نفسي وفكرت أن عليّ فقط أن أعرف لماذا طلب مترجماً، وأنقل المعلومة. قلت له: «نعم أنا جديد. ماذا أستطيع أن أفعل لك؟» قال لي «هل تعرف لماذا أنا هنا» قلت: «لا أستطيع أن أساعدك في ذلك، أنا مجرد مترجم»، سألني: «من أين أنت؟». سألته متجاهلاً استفساره «ماذا تريد؟» عند ذلك سألني: «هل الشقراء متزوجة؟ كان يتحدث عن فانيسا، التي كان المعتقلون يحبونها، فقد كانت شقراء وعيناها زرقاوان وقوامها ممشوق ومرحة معهم وكانت تحاول حل مشاكلهم، وبصراحة كانوا يحبون التحدث مع امرأة أمريكية جميلة. لماذا أنا هنا؟ تابعت رفضي للإجابة على أسئلته، وعندما لاحظ أنني على وشك الانصراف قال: «اطلب من المسؤول عن المكتبة أن يحضر لرؤيتي». حينها لم أكن أعرف ما الذي سأتوقعه من معتقلين إرهابيين، لكنني عرفت أن ذلك لم يكن ما توقعته، وشعرت بأن ذلك الرجل أراد فقط أن يتحدث عن شيء ما ليحول انتباهه ويشغل نفسه، وكان ذلك الأمر يحدث دائما مع معتقلين آخرين. فزياد مثلا ذلك المعتقل الفلسطيني الأصل، والذي كنت قد ذهبت إليه في وقت لاحق من ذلك الصباح بناء على طلب منه، شعرت بأنه يريد فقط الحديث مع أي شخص ويعرف لماذا لا يزال يحتجز هنا في غوانتانامو دون محاكمة، قلت له وأنا أقترب منه «السلام عليكم»، فقال لي «وعليكم السلام»، فسألته «ماذا أستطيع أن أفعل لك؟» قال لي «هل تعرف لم أنا هنا؟» رددت عليه «لا أستطيع أن أساعدك في ذلك». سألني «هل أنت متزوج؟». أجبت «لا. ماذا تريد؟» قال لي: «هل أنت من تكساس مثل جورج بوش؟». أجبت «لا. اسمع إما أن تقول لي ماذا تريد أو أنني سأنصرف». عند ذلك قال: «أحتاج إلى كتاب جديد أنهيت هذا الكتاب». قلت له منصرفا: «سأخبر المسؤول عن المكتبة». كنت مستغرباً لمدى نجاح لغتي العربية باللكنة الأمريكية مع المعتقلين، لكني كنت ما أزال قلقاً من أنني سأجد صعوبة في فهم بعض اللهجات ومعرفة كيفية إعطاء الإجابات للمعتقلين، خاصة التي كنت أسمعها كثيرا وهي : لماذا أنا هنا ؟؟ الإرهاب الديني في الساعة الثانية عشرة ظهرا، ارتفع تسجيل لآذان الظهر من مكبرات الصوت، ليتردد في جميع أنحاء المعسكر، أدهشني ذلك وفاجأني ورحت أتساءل هل نقدم نحن التنازل للتعصب الديني للإرهابيين، لكن تساؤلي هذا سرعان ما عرفت إجابته عندما علمت لاحقا بأن قيادة المعسكر تساعد على تسهيل تكريس الإرهاب الديني، في الوقت الذي كنت أتوقع أن نبعدهم تماما عما هم فيه (كان ذلك بغية استمرار اتهامهم بالإرهاب والتعصب الديني)، فقد كانت ممارسة الطقوس الإسلامية منتشرة في المعسكر، فقد كان هناك صوت للآذان يسمع خمس مرات في اليوم من مكبرات الصوت، وكان هناك سهم في كل زنزانة يشير إلى مكة، وكانت هناك سجادة صلاة وقبعة ونسخة من القرآن لكل معتقل. وبعد ظهر ذلك اليوم، دخلت فانيسا غرفة اللغويين وقد بدا عليها الغضب وهي تقول: «هؤلاء الحراس تافهون»، فسأل آدم: «ماذا حدث الآن؟». قالت فانيسا: «أحد هؤلاء حطم بسكويت أحد المعتقلين مرة أخرى قبل أن يعطيه وجبة طعامه الجاهزة، كل ما يفعله مثل هذا التصرف هو أن يجعل مهمتنا أصعب». كنت قد لاحظت أن الحراس لديهم مشاعر عدائية كثيرة، وسألت فانيسا إذا كان عناصر الشرطة العسكرية يقضون كل يومهم وهم متضايقون وغاضبون، أجاب مو وفانيسا «نعم» في نفس الوقت، لتضيف فانيسا «إن ما يزيد الأمور سوءاً أن قادة الشرطة العسكرية يقولون لهم كل يوم إن هؤلاء الرجال هم نفس الأشخاص المسؤولين عن هجمات 11 سبتمبر، لو أني كنت أصدق ذلك، لشعرت بالرغبة في تحطيم طعامهم أيضاً». تساءلت حينها لعلها تعرف الكثير عن المعتقلين هنا؟؟؟ في السابعة مساء، انتهى عملنا لذلك اليوم. جلسنا أنا وفانيسا في مؤخرة السيارة. سألتني فانيسا عن رأيي في يومي الأول، أجبتها «يصعب تحمل كل ذلك، أعتقد أن الأمر يصبح صعباً عندما يسمعهم المرء يتألمون كل يوم ويسألون باستمرار لماذا هم معتقلون»، فقالت فانيسا بهدوء «دعني أقدم لك نصيحة يا إريك، عليك أن تنتبه إلى عواطفك هنا، فجميع الذين معنا ينتمون إلى إحدى مجموعتين: مجموعة تجبر نفسها على الاعتقاد بأن كل معتقل هنا كان مسؤولا جزئياً بشكل ما عن هجمات سبتمبر، وذلك يسمح لهم بتبرير كراهيتهم لهؤلاء الرجال وفصل نفسهم عاطفياً، والآخرون يمكنك رؤية الإحباط في أعينهم. فهم يتعاطفون أكثر وأكثر مع ظروف المعتقلين كل يوم ويكرهون عناصر الشرطة العسكرية لأنهم يكرهون المعتقلين. ستكتشف عما قريب من يقع في أي مجموعة»، وخلصت فانيسا إلى القول: «نصيحتي أن تجد حلاً وسطاً، لا تنظر إلى كل معتقل على أنه ساعد في التخطيط لهجمات 11 سبتمبر، لأن ذلك ليس صحيحاً، ولكن في نفس الوقت لا يمكنك أن تتورط عاطفياً عندما يتعلق الأمر بهؤلاء الرجال». كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب