«اللباس البرتقالي والسلاسل الحديدية واللاصق الأسود هي تلك الصور التي شاهدناها ولا نزال نشاهدها للمعتقلين الذين أطلقت عليهم الولاياتالأمريكية لقب «الإرهابيين». صور تثبت لنا حجم الضبابية الذي لا يكاد يزول عن ادعاءات الولاياتالمتحدة المزيفة والحقائق، التي طالما رآها البعض في أمريكا باعتبارها راعية حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والمعتقدات الدينية. حقائق يكشف عنها إريك سار (رقيب في الجيش الأمريكي وأحد المحققين في غوانتانامو بعد فترة ستة شهور قضاها مع المعتقلين) والصحفية فيفكا نوفاك (مراسلة صحيفة «واشنطن بوست» وعضو الجمعية الأمريكية لحقوق الإنسان والحريات المدنية). حقائق تبين لنا مقدار الغطرسة الأمريكية في جحيم غوانتانامو، الذي بدأت السلطات الأمريكية باستغلاله مع بداية سنة 2002 بعد احتجاز من تشتبه في كونهم إرهابيين ينتمون إلى تنظيم القاعدة. حقائق تكشف لنا جوانب مظلمة وممارسات وحشية وأساليب منافية للمواثيق والأعراف الدولية تجاه المعتقلين. كان هناك طريقان مرصوفان بالحصى باتجاه المياه، وكان كل منهما بعرض ثلاثين قدماً، وعلى طرفي الطريقين أبنية شبيهة بالعربات المقطورة، وكان حوالي خمسة منها على كل جانب. بدأ الكابتن منصور يشرح لي ولمارك بأن هذا هو مجمع الزنزانات التي تحوي حوالي 600 معتقل من أكثر من أربعين دولة. كانت الأبنية مصنوعة من حاويات الشحن القديمة التي قطعت بالنصف طولياً وألصقت نهاية كل طرف بالآخر. كل زنزانة كانت مسوّرة بشكل انفرادي وأمامها ساحة صغيرة من الإسفلت حجمها نصف حجم ملعب كرة السلة، وهناك حمامان (دشان) أيضاً في الهواء الطلق في الخلف، وعلى جانبي الطريق وبين الزنزانات كان هناك ممر مسوّر تقوم عناصر الشرطة العسكرية بدوريات مستمرة فيه، وأمام كل زنزانة يوجد باب خاص بها لا يمكن الولوج منه أو إليه دون أن يفتح لك أحد عناصر الشرطة العسكرية، فللوصول إلى الزنزانة (بعد الحصول على الإذن بذلك) يفتح لك أحد عناصر الشرطة العسكرية أحد الأبواب المؤدية إلى أحد الطرق الواسعة المركزية من خلال بوابة مزدوجة حجمها أصغر قليلاً من البوابة الرئيسية لكامب دلتا. بعد ذلك يلتقيك عنصر آخر من الشرطة العسكرية على بوابة مجمع الزنزانات التي تتجه إليها ويسمح لك بالدخول أولا إلى الممر الضيق وبعد ذلك إلى منطقة مجمع الزنزانات. كنت أرى أن الحراس كانوا يمضون وقتا صعبا ومزعجا وهم يقومون بالدورية في هذه الممرات الضيقة بشكل دائم ويفتحون البوابات للآخرين، فلا عجب أن الضيق والانزعاج كانا باديين على وجوههم. بين البوابة الرئيسية لكامب دلتا والزنزانات كانت هناك مجموعات من الأبنية الشبيهة بالمقطورات والأكواخ المعدنية. هنا أشار الكابتن منصور إلى العيادة الطبية الخاصة بالمعتقلين على يسارنا وإلى أبنية التحقيق والإدارة أمامنا وعلى يميننا، وقال الكابتن منصور : «أرأيتم تلك الزنزانة على اليسار؟ تلك هي زنزانة دلتا التي يوضع بها أكثر المعتقلين اضطرابا لأنها قريبة من العيادة الطبية. هنا تبادلت النظرات مع مارك وكأننا نتساءل كيف يمكن أن يكون أولئك الأشخاص الذين سنتعامل معهم يا ترى؟ اللباس البرتقالي وما هي إلا لحظات قليلة حتى رأيت معتقلا يصطحبه أحد الحراس إلى العيادة، كان يرتدي اللباس البرتقالي الفاقع المألوف في شاشات التلفزيون، نحيلا وظهره محن وشعره طويل وخشن ولحيته سوداء مائلة إلى اللون الأشيب، وقدماه مقيدتان وكذلك يداه. كان الحارس يقبض على ذراعه بقوة، رغم كل تلك القيود. كان ذلك الحارس يخشى أن يكون ذلك المعتقل يخبئ جناحين ليطير بهما، وتمنيت حينها لو كنت في مكان آخر ربما ألعب الغولف أو أجلس مع صديقتي في مكان ما من الولاياتالمتحدة. كانت تلك المرة الأولى من ألف مرة التي شعرت فيها أن التاريخ كان يلتقط صورة وثائقية، خاصة أنني كنت أقف في مكان فريد تماما في التجربة الأمريكية. مكان كانت تصلنا صوره عبر شاشات التلفاز لترينا واقعا عكس ما نراه هنا، واقعا مليئا بالتناقضات الأمريكية، حسب ما اكتشفته بعد ذلك بشهور (شهور عملي هنا في غوانتانامو)، فالصور التي رأيتها للمعتقلين وللمعاملة السيئة لهم والاحتقار المتواصل لهم من طرف القيادة وعناصر الشرطة العسكرية كانت تنم عن حقد مختزل تجاه هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يعاملون معاملة لا تليق بالإنسانية ألبتة. وقبل أن تختفي صورة ذلك المعتقل عن ناظري، طبطب الكابتن منصور على كتفي وقال : «إيريك.. هل أنت هنا أم ذهبت إلى مكان آخر؟»، فقلت له: «لا. أنا لا زلت هنا معكم». فقال : «أريد منكم أن تقوموا باختبار للعمل من خلال ترجمة بعض الرسائل من العربية إلى الإنجليزية والعكس قبل أن تبدؤوا العمل في الزنزانات». في العادة تتم ترجمة الرسائل ثم تحول إلى وحدة تحليل المعلومات لتقرير ما إذا كان الكاتب يحاول نقل رسالة مشفرة أو لا. عمل ذلك كان يتطلب كفاءة عالية في اللغة العربية ولم أكن متأكدا من أن لغتي كانت بذلك المستوى، لكن رغم ذلك اجتزنا ذلك الاختبار بنجاح وأسر لنا الكابتن منصور قائلا: «الآن انتم قادرون على استلام مهامكم، ولذلك سأعرفكم بركيزة مكتب ترجمة الوثائق والمسؤول عنها، وهو أحمد الحلبي الذي كان موجودا معنا. وأضاف قائلا : «الحمد لله. لقد جئتم في وقتكم، فلدي ركام من الرسائل غير المنجزة» (كان يقصد رسائل المعتقلين إلى ذويهم والعكس التي لم تكن تغادر المعسكر إلا بعد أشهر طويلة وبعد خضوعها لعمليات التدقيق في محتواها)، فسأله مارك عما إذا كان يعمل وحده في ذلك المكتب، فرد عليه الحلبي قائلا: «هناك شخصان آخران يساعداني أحيانا، لكنني الوحيد الذي لدي كمبيوتر، لذلك على الآخرين الترجمة بخط اليد، وأنا أقوم بطباعة الرسائل على الكمبيوتر الخاص بي باللغة الإنجليزية بعد ترجمتها من العربية. لذلك أنا بحاجة إلى شخص لديه كمبيوتر آخر ليساعدني في ذلك». رسائل متبادلة كنت قد أحضرت جهاز الكمبيوتر الخاص بي معي إلى غيتمو وسألته عما إذا كان بإمكاني إحضاره، فأجاب أحمد «أنا متأكد أنهم سيسمحون لك بذلك، لكن احرص على الحصول على تصريح خطي قبل أن تفعل ذلك، فقد كان علي أن أوقع مجموعة من النماذج والاستمارات وأحصل على موافقة القيادة قبل أن أحضر جهازي». حينذاك قررت أن الأمر لا يستحق كل ذلك التعب فتخيلت ما يمكن أن يحدث بعد ستة أشهر عندما أبدأ بإجراء التصريحات الأمنية لمغادرتي الجزيرة إذا استخدمت جهاز الكمبيوتر الخاص بي لترجمة رسائل المعتقلين، فالنتائج ستكون سلبية للغاية بعد ذلك، خاصة أنني سأخضع أنا والجهاز لعمليات تفتيش ومراقبة صارمة، وفضلت حينها أن أقوم بالكتابة بخط اليد على أن أحضر جهاز الكمبيوتر. سرعان ما بدأ احمد الحلبي بإعطائنا فكرة عن نوعية الرسائل التي سوف نقرؤها قائلا : «غالبا ما يقوم المعتقلون أو أهاليهم باقتباس نصوص من القرآن ويكتبون عن اشتياقهم لأحبائهم وعن إحباطهم بسبب اعتقالهم الذي يبدو بلا نهاية واضحة، والعمل يسبب لي الكآبة في بعض الأحيان، فمعظم اليوم إما أقوم بقراءة رسالة من طفل في العاشرة من عمره يخبر أباه كيف أنه سيعتني بوالدته إلى أن يجتمعوا معاً مرة أخرى، أو رسالة من معتقل يقول إلى أي حد يفتقد عائلته وكم يعامل بشكل سيء هنا، وأحيانا تصل رسالة من عم معتقل أو ابن عمه تشجعه ليكون قويا في إيمانه ويذكرونه بأنه كلما كانت المعاناة أكبر كان الجزاء عليها أكبر». كان بإمكاني رؤية التوتر على وجه أحمد، فقد كان يبدو لي أن العمل سيكون مزعجا لأي شخص، لكنه بالتأكيد أسوأ بكثير لمسلم ملتزم، فسأله مارك: «لماذا لا تعمل في الزنزانات عوضا عن ذلك؟» فأجاب أحمد «كنت أفعل. لكن ذلك أزعجني أكثر، لذلك فكرت في أنني سأكون في وضع أفضل هنا. كان من الصعب رؤية معاناتهم، إذا كانوا مذنبين فأنا بالتأكيد لا أوافق على ما فعلوه، لكنهم بشر مع كل ذلك وهناك الكثير منهم أبرياء لا صلة لهم بما وقع ولا صلة لهم بالإرهاب». لاحظت فجأة أنني لا أرغب في متابعة هذه المحادثة، ليس مع شخص قابلته للتو وليس قبل أن أكون فكرتي الخاصة عن المعسكر. لكن أحمد تابع قائلا: «لدينا أشخاص كبار في السن هنا. رجال في الخمسين والستين، ولدينا أطفال هنا أيضاً»، ولا زلت أتساءل فقط إذا كان هؤلاء فعلا أسوأ السيئين. لذلك قلت للكابتن منصور إنني أعتقد بأنه من الأفضل أن أعمل في مكان بعيد عن الزنزانات. علاقة مثيرة للشبهات وفيما بعد عرفت أن أحمد كان قد وصل قبل أربعة أسابيع في منتصف نوفمبر، بعد أن طلبت منه وحدته في القوة الجوية أن يتطوع، خاصة أن بلده يحتاج إليه بعد وعدها إياه بأن مهمته ستكون تسعين يوما فقط، وهي الفترة الطبيعية لأي شخص قادم من القوة الجوية (ليس مثل مهمتي لستة أشهر)، فتساءلت حينذاك عما إذا كان وجوده هنا يعني شيئا بالنسبة إليه. كان من الواضح أنه أمريكي حقيقي، حيث إنه عاش في الولاياتالمتحدة منذ سنوات المراهقة، ولا شك أنه يحب أمريكا، لكن موقفه كان غير مستقر، فلم يخضع لتدريب استخباراتي، وبدا غير مستعد للتعامل مع الضغوط النفسية التي يتعرض لها، ورغم ذلك كان قد حصل على تصريح أمني (في الظروف العادية لم يكن يمكن لأحمد الحصول على تصريح أمني لأنه كما عرفت بعد ذلك، كان قد خطب امرأة سورية، فالدوائر الاستخباراتية تعتبر أي علاقة قريبة من شخص أو بلد أجنبي مثل سوريا مثيرة للشبهة بحد ذاتها). أشار أحمد إلى كومة من الرسائل وأخرجنا- أنا ومارك- القواميس وبدأنا العمل. كانت جميع الرسائل بخط اليد وكان من الصعب جداً قراءتها، ولكن لحسن الحظ، فيما بعد، ذلك الصباح، نجونا- أنا ومارك- عندما تم استدعاؤنا إلى اجتماع للقادمين الجدد مع كبير الأطباء النفسيين في المعسكر الذي استمعنا إليه بانتباه وهو يتحدث عن الحاجة إلى حراسة مشاعرنا في المعسكر، وأن نحرص على ألاَّ نسمح للمعتقلين باستغلالنا، محذرا إيانا أيضاً بعدم السماح لأنفسنا بالتعاطف معهم، ومطالبا في الوقت نفسه بأن نسعى إلى طلب المساعدة من اختصاصي إذا أحسسنا بزيادة الضغوط. كاتب وصحفي فلسطيني