«اللباس البرتقالي والسلاسل الحديدية واللاصق الأسود هي تلك الصور التي شاهدناها ولا نزال نشاهدها للمعتقلين الذين أطلقت عليهم الولاياتالأمريكية لقب «الإرهابيين». صور تثبت لنا حجم الضبابية الذي لا يكاد يزول عن ادعاءات الولاياتالمتحدة المزيفة والحقائق، التي طالما رآها البعض في أمريكا باعتبارها راعية حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والمعتقدات الدينية.حقائق يكشف عنها إريك سار (رقيب في الجيش الأمريكي وأحد المحققين في غوانتانامو بعد فترة ستة شهور قضاها مع المعتقلين) والصحفية فيفكا نوفاك (مراسلة صحيفة «واشنطن بوست» وعضو الجمعية الأمريكية لحقوق الإنسان والحريات المدنية).حقائق تبين لنا مقدار الغطرسة الأمريكية في جحيم غوانتانامو، الذي بدأت السلطات الأمريكية باستغلاله مع بداية سنة 2002 بعد احتجاز من تشتبه في كونهم إرهابيين ينتمون إلى تنظيم القاعدة. حقائق تكشف لنا جوانب مظلمة وممارسات وحشية وأساليب منافية للمواثيق والأعراف الدولية تجاه المعتقلين. مع منتصف ماي من سنة 2002 كنت أعمل بوكالة الأمن الوطني في «فورت فيد» بعد نقلي من نيويورك لأقوم ببعض الترجمات إلى اللغة العربية هناك، فقد أتاحت لي تلك الفرصة أو المهمة (في ماي 2002 تم نقلي إلى منطقة واشنطن لأعمل مع وكالة الأمن الوطني في فورت ميد) رؤية صورة أوسع للدعم الاستخباراتي للحرب على الإرهاب. كان العاملون هناك يتولون حماية بلدنا من الناحية الإستراتيجية، وكانوا أذكى الأشخاص الذين عرفتهم وأكثرهم تفانيا في العمل، وكانوا يقدمون معلومات هامة لصانعي القرار الأمريكي بشكل يومي. ومع أنني ممنوع من إعطاء أي تفاصيل عما رأيته، كان عمق سيطرتنا على النشاطات الإرهابية في شتى أنحاء العالم مثيرا للإعجاب، وفي نفس الوقت كنت أعرف أن ذلك لم يكن كافيا وإلا لما وقعت أحداث 11 سبتمبر مطلقا. أسوأ السيئين كانت ساعات العمل اليومي بالنسبة إلينا في وكالة الأمن القومي بمثابة الأشغال الشاقة المؤبدة نظرا إلى ساعات العمل الطويلة التي كنا نقضيها ليلا ونهارا لدراسة تلال الملفات والتقارير وإعداد تقارير جديدة منقحة مصحوبة بالترجمات التي نقوم بها من اللغة العربية إلى الإنجليزية، وبدأت الأمور شيئا فشيئا تأخذ منحى آخر مع بدايات يناير من ذلك العام، فقد بدأت إدارة بوش بإرسال معتقلين مشتبه بأنهم إرهابيون من أفغانستان إلى معسكر غوانتانامو (تم القبض عليهم في الولاياتالمتحدةوأفغانستان ومناطق أخرى بعد هجمات سبتمبر). كنت أتمنى أن ينتهي الأمر بأي شخص له ارتباط ولو بعيد بالقاعدة في ذلك المعسكر، الذي لم أكن أعرف عنه شيئا سوى معلومات تصلني فقط بالصدفة وأسمعها من خلال محادثات مع بعض الجنود، وكنت أشعر حينها بأنه ليس هناك مكان أفضل من غوانتانامو (غيتمو كما يطلق عليه) لإرسالهم إليه، لأنه يعتبر منفى حتى بالنسبة إلى الجيش نفسه، فقد كان وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد قد أعلن أن الذين يتم إرسالهم إلى غوانتانامو كانوا «أسوأ السيئين» (في إشارة إلى الجنود والضباط الأمريكيين طبعا) وكانت أوساط الاستخبارات تعرف بأن المحققين سيعملون بطريقة خاصة هناك للحصول على معلومات صلبة من أولئك المتعصبين المتمرسين. وفي صباح أحد الأيام الدافئة من شهر يوليوز، وأثناء تناولنا وجبة الإفطار بقاعدة «فورت ميد» سمعت صدفة أحد اللغويين الآخرين في وحدتي العسكرية يقول: «عندما كنت في غيتمو». لم نكن قد سمعنا الكثير عما كان يجري في غوانتانامو، ولم أكن قد التقيت قبل ذلك بشخص كان قد زار معسكر المعتقلين، فتملكني حينها شعور بالتطفل وشغف الرغبة في معرفة المزيد، فأردت أن أسمع قصة ذلك الشاب. كان ذلك الجندي، واسمه مايكل مارك، قد أمضى أسبوعين في غوانتانامو في معسكر دلتا (تلك المنشأة الجديدة التي تم بناؤها خصيصا للإرهابيين) لأداء مهمة لم يكن يستطيع الحديث عنها. لم يعط أي معلومات وأي توضيحات لنا سوى بعض العبارات العامة والمبهمة، لكن رغبتي في المعرفة والاستقصاء وكلامي معه بصوت منخفض جعلته يطمئن شيئا ما لي ويخرج بعض ما يكتنزه صدره، وعندما شعرت بأنه يريد الكلام قلت له: «مايكل صديقي أنا أريد أن أعرف منك ولو شيئا بسيطا عن معتقل «دلتا» لأنني سأذهب إلى هناك بعد أيام قليلة فقط، وأنت تعرف جيدا القوانين العسكرية التي لا يجوز الخطأ فيها ولا تسمح به، وأنا لا أريد أن أرتكب أخطاء في أول مهمة رسمية خارج الوطن». هنا نظر إلي نظرة ثاقبة فهمت منها بأنه يقول لي: لا تذهب إلى هناك. لا تذهب إلى ذلك الجحيم.لا تذهب كي لا ترى تناقض المبادئ الأمريكية التي زرعت فينا لحظة دخولنا الكليات العسكرية، مبادئ العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان التي نضربها بعرض الحائط كل يوم في غوانتانامو. لكن مايكل أيقظ ذهني مجددا من الشرود حينما قال : «اسمع يا صديقي (قالها هنا بهمس شديد)، أنا لا أستطيع أن أتكلم معك أو مع أي أحد آخر حول ما يجري هناك، وأنت كما تقول ستذهب إلى غوانتانامو في مهمة جديدة لك، رغم أنني أشعر بأنك تكذب علي، لكن سأقول لك إنني حضرت جلسات للتحقيق مع المعتقلين، ورأيت استخداما مفرطا للقوة ضدهم من طرف المحققين، فهؤلاء المعتقلون عندما ستتقرب إليهم ستشعر بأن كل ما نقوم به ضدهم غير مباح ولا شرعي، وأنهم أبسط مما كنا نتوقعه، لكنني أحذرك من أمرين لا بد أن تأخذهما بعين الاعتبار في حال ذهابك إلى هناك. الأول، أن لا تحكم على الأمور، وأقصد هنا المعتقلين منذ البداية. فلا بد لك أن تستمع إليهم وتتقرب منهم حتى تعرف معاناتهم، خاصة أن هناك أبرياء كثيرين لا صلة لهم بما حدث. والأمر الثاني، أن لا تصرّح بأي تصريحات وأقوال لأي أحد أثناء وجودك هناك وبعد عودتك لأنك ستنال الجزاء. لكن العملية كلها كانت مثيرة للاهتمام».هنا هم مايكل بالمغادرة معتذرا دون أن يمنحني المزيد من الوقت لأعرف المزيد ودون أن يمنحني إجابة شافية وتفسيرا واضحا عن ذلك الجزاء الذي سأناله ومِن مَن؟ ومن أية جهة؟ وكيف سيكون هذا الجزاء؟ أسرتني عبارات مايكل الأخيرة المبهمة التي لم تشف غليلي، ولعلها زادت رغبتي في الذهاب إلى «غيتمو» (رغم أن نظراته الأولى كان تقول لي عكس ذلك)، فقد كنت أشعر حينها بأنني أضحيت عنصرا جيدا مقابل عملي في «فورت ميد»، خاصة أنه كانت لدي العديد من الصلاحيات السرية التي تعلمت منها كيفية كتمان الأمور وإخفائها عن الآخرين.فعملي هناك أهلني لمعرفة كيفية تحليل المعلومات الصغيرة جدا التي قد لا تبدو للآخرين بأنها مهمة، لكن ما كان يحول دون عزمي الكامل للذهاب إلى هناك (سبب ترددي في البداية) هو تلك الفتاة الصغيرة اليافعة ذات العيون الزرقاء والشعر الأشقر التي كنت قد تعرفت عليها قبل فترة وجيزة وتعاهدنا على عدم الفراق والمصارحة في كل شيء حتى لو كانت سرية تخضع للضوابط العسكرية. فتلك الفتاة كانت بالنسبة إلي فتاة مثالية، ولذلك كانت لدي أسباب كافية للبقاء حيث أنا. لكنني مع ذلك كنت متحمسا لفكرة الذهاب إلى «غيتمو»، والتعامل مباشرة مع الإرهابيين، وما كان يزيدني عزما هو رغبتي الجامحة في ممارسة التحقيق الذي كنت قد تعلمت مبادئه الأولى في دورة عسكرية لحظة انخراطي بالجيش. كنت أعتقد بأنني أحب التحدي الفكري الذي يأتي مع ذلك النوع من العمل، وكنت أرى في معتقل غوانتانامو الطريقة المثلى للاطلاع وممارسة مثل هذا العمل الذي تمنيت أن أمارسه وأتابعه في الجيش أو في الحياة المدنية. كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب