بدأت تعلو في منطقة «الأورو» أصوات تقول «كفى» لاتفاقيات التبادل الحر وترفع «الفيتو» في وجه كل المبادرات الرامية إلى توقيع اتفاقية جديدة. ويفسر هؤلاء موقفهم الرافض للتبادل الحر بعدم استفادتهم من هذا الإطار الخاص للتعامل بين الدول. وفي المقابل، يطالبون بتعويضه على عجل، بإقرار رسوم جمركية على طول الحدود الأوربية، لكنْ يبدو أن ثمة عراقيل عديدة تعترض تحقق هذه المطالب، تطرق لها بتفصيل كتاب «الحمائية الجديدة»، الذي أثار، بمجرد صدوره، ضجة كبرى في فرنسا. حرص المتحمسون لإبرام اتفاقيات التبادل الحر، منذ بروز توجهات تمضي قدما نحو تنزيلها على أرض الواقع في ثمانينيات القرن الماضي، على الترويج للعديد من الأفكار، التي أثبتت السنين الماضية أنها ليست صحيحة تماما، وأكدت وجود «جرعات زائدة» في التفاؤل الذي صاحَبَ التوجهَ نحو تنزيل فكرة «التبادل الحر» على أرض الواقع. بشّر المتحمسون لثقافة التبادل الحر بأن يؤدي محو الحدود بين الدول على صعيد تبادل البضائع والسلع إلى تضييق تدريجي للفوارق بين الأجور. كما كانوا لا يفوّتون فرصة دون أن يؤكدوا أن تحرير الأعمال ونقل رؤوس الأموال سيُمكّنان، لا محالة، من توقيف نزيف ترحيل الخدمات. غير أن الواقع خيّب ظنهم وكذب جميع نبوءاتهم. واليوم، بات أكثر الناس سذاجة، إلى جانب من كانوا بالأمس أشد الناس تحمسا للتبادل الحر، يطرحون علامات استفهام عديدة حول جدوى هذه الآلية، التي رُحِّب بها في أول الأمر، ظنا أنها ستجعل المعاملات أكثر سهولة، فإذا بها تفضي إلى نتائج معاكسة في بعض الحالات، ولا يمكن، بأي حال من الأحول، مقارنة هذه النتائج بالأعراض الجانبية، التي تظهر نتيجة تناول دواء معين. فشل التبادل الحر لعل هؤلاء المتحمسين راجعوا حساباتهم حين سمعوا التصريحات التي أدلى بها هيربيرت هاينر، الرئيس الشاب لشركة «أديداس» العالمية، بخصوص مستقبل أعمال شركته في الصين. فقد قال هياينر، في استجواب خص به الأسبوعية الألمانية «ويرتشافتفوش» في 28 يوليوز 2008: «الأجور آخذة في الارتفاع في الصين»، قبل أن ينتقل إلى استغلال فرصة الحديث عن الأجور وأوضاع قطاع الشغل في عدد من الدول، التي كانت تعتبر بمثابة «جنة» للشركات متعددة الجنسيات، وفي مقدمتها الأسيوية، إلى التعبير عن نية شركته الانسحاب، بشكل تدريجي، من الصين. ولا تكشف تصريحات هاينر عن تبلور تصور جديد لدى الشركات العالمية بخصوص وحداتها الإنتاجية الناشطة في دول مشهورة بتدني تكاليف الإنتاج فيها، وإنما رأى فيها البعض أيضا إرهاصات موجة جديدة من ترحيل الخدمات والوحدات الإنتاجية، وبالتالي بروز موجة ثانية من العولمة ستكون فيها الدولة المستفيدة من المرحلة الأولى مجبرة على التعايش مع «كابوس» الاستيقاظ يوما على وقع تفكيك الوحدات الإنتاجية من أجل نقلها إلى أقرب جيرانها، الأكثر فقرا.. فقد لا تتردد الشركات متعددة الجنسيات في ترك الدول التي تفلح في الخروج من دائرة التخلف وتتحسن فيها ظروف العيش وترتفع فيها فاتورة التحملات الاجتماعية وتصير فاتورة الإنتاج مرشحة للتضخم. لقد صار الأمر شبيها بمنافسة بين الفقير والأشد فقرا. وعلى هذا الأساس، لن يكون غريبا، مطلقا، أن تُقْدم شركة في حجم «أديداس» على نقل وحداتها الإنتاجية من دول صاعدة إلى أخرى ما تزال نامية في تطور، قد يؤكد أن الانتقال من الدول الفقيرة إلى الأكثر فقرا يبقى السمة البارزة في الموجة الثانية من العولمة، وهو ما يعني أن أي دولة تفلح أو تقترب من استدراك الفارق الحاصل بين الأجور بين أغنياء العالم وفقرائه ستؤدي ثمن ذلك بخسارة جزء، قد لا يكون يسيرا، من الوحدات الإنتاجية للشركات العالمية، التي كانت قد حطت رحالَها فيها رغبة في الاستفادة من الفرص التي تتيحها لتخفيض تكاليف الإنتاج. أكثر من ذلك، تكشف الإحصائيات الأخيرة عن الأجور في العالم أن هذه الهوة لم تعد تتقلص بنفس الوتيرة التي كانت عليها قبل سنوات. فبعد أن كانت تتقلص سنويا بنسبة 4 في المائة بين سنتي 1975 و1990، لم تتعد نسبة التقلص 2 في المائة في العقد الأول من الألفية الثالثة، كما لو أن الطبقات التي أفلحت، في وقت سابق، في تحسين مداخليها المالية اصطدمت بتحديد سقف معين للمداخيل الممكن تحقيقها لا مجال لتجاوزه. العولمة الثانية يبدو أن الرومانيين كانوا أول من استشعروا هذه المستجدات في القارة الأوربية. تجلى ذلك في تمكن عمال ومستخدمي شركة «داسيا» لصناعة السيارات، التابعة للعملاق الفرنسي «رونو» من انتزاع زيادة في الأجور بنسبة 28 في المائة بعد إضراب تاريخي، وهو ما أنعش آمال عمال الشركة نفسها في كل من العاصمة الروسية موسكو ومدينة «بورسا» التركية في إنعاش أجورهم. غير أن هذه الزيادات كانت لها، في المقابل، انعكاسات سلبية على مستقبل مصانع الشركة في الشرق الأوربي. وقد أكد مسؤول نقابي روماني بروز هواجس لدى أرباب الشركات العالمية الناشطة في رومانيا من توجه الأجور نحو الارتفاع في هذا البلد الذي انضمّ إلى الاتحاد الأوربي في الألفية الجديدة، ونُقل عن بضعهم تهديدات بنقل استثماراتهم إلى دول أخرى. وفي هذا السياق، يندرج افتتاح الوحدة الإنتاجية الجديدة لشركة «رونو» في مدينة طنجة، المغربية، بدليل أن اليد العاملة في المغرب ستكلف أقل من نظيرتها، الرومانية على سبيل المثال. ويمتاز الجيل الجديد من ترحيل الوحدات الإنتاجية بتنامي الاهتمام بالأسواق المشرقية على حساب دول أوربا الشرقية وآسيا الصغرى. غير أن هذا التوجه تضاءل بعد بروز الربيع العربي. ولا يمنع هذا الأمر من التذكير بأن تركيا كادت تخسر كثيرا من الوحدات الإنتاجية التابعة للشركات العالمية، المتخصصة في صناعة الإطارات المطاطية لمختلف وسائل النقل لصالح مصر. قبل الثورة المصرية، كانت الأجرة الشهرية لعامل مصري في هذا النوع من الصناعة لا تتجاوز ألفا و350 دولارا، في حين تصل أجرة نظيره التركي إلى 5 آلاف و400 دولار.. وكأن مصائب تركيا لا تنتهي في هذا المجال، فقد أقدمت شركات قابضة تركية على التوجه نحو الاستثمار في الأسواق المشرقية، خصوصا العربية، قبل الثورة، من أجل صناعة مجموع إنتاجها الموجه نحو التصدير. وليست أوربا القارة الوحيدة التي تشهد هذه الموجة الثانية من العولمة. فبعد أن سارع رجال الأعمال الأمريكيين إلى ترحيل كثير من وحداتهم الإنتاجية إلى جارتهم الجنوبية المكسيك، مباشرة بعد توقيع اتفاقية التبادل الحر بين كل من كندا والولايات المتحدةالأمريكيةوالمكسيك في سنة 1993، أخذ المستثمرون الأمريكيون يهتمون بالدول الأسيوية، وقد عمد كثير منهم إلى نقل أنشطتهم الاستثمارية إلى الصين، التي تقل فيها الأجور أربع مرات مقارنة مع المكسيك. الإعداد ل«موت» الطبقة المتوسطة تلقى مواطنو الدول المتقدمة وعودا بأن يكونوا أكثر المستفيدين من ترحيل الخدمات ونقل الوحدات الإنتاجية من بلدانهم إلى دول أخرى، خصوصا ما يعرف ب«دول الجنوب»، من أجل تقليص تكاليف الإنتاجية، مع الإشارة إلى أن تقليص تكاليف الإنتاج يفضي إلى أمرين هما رفع تنافسية المقاولات الصناعية، أولا، وإمكانية رفع هامش الأرباح المحققة، ثانيا. حينها، نصح مواطنو الدول الأكثر ازدهارا بالتخصص في أنشطة ذات قيمة مضافة كبيرة للتمكن من الحصول على تعويضات مجزلة، كما تم تبشيرهم بأنهم سيتمكنون، بوصفهم مستهلكين، من الحصول على المواد الاستهلاكية بأسعار «مقلصة»، غير أن الرياح جرت بما لم تشتهِهِ أصحاب هذه الوعود. وقد ترتبت عن هذه التوجهات الجديدة أوضاع لم تكن في الحسبان: أصبحت بعض الفئات في المجتمعات الأكثر رخاء مستعدة لمنافسة العمال الصينيين على تلك المناصب، لو أنها توفرت لهم في بلادهم المتقدمة، وتفسير ذلك بسيط، حسب الاقتصادي الأمريكي الشهير بول سامويلسون، وهو خبير ليبرالي انتهى به الأمر إلى التشكيك في جدوى التبادل الحر وترحيل الخدمات ونقل الوحدات الإنتاجية- ويتمثل هذا التفسير، بكل بساطة، في استحالة أن يعوض اقتناء المواد الاستهلاكية بأسعار منخفضة خسارة أجرة شهرية واحدة. ومن هذا المنطلق، عمل الليبراليون الاجتماعيون، الذي صعدوا إلى سدة الحكم في العديد من الدول الغربية في تسعينيات القرن الماضي على ملء الفراغات التي برزت في هذه النظرية، في خطوة استباقية لفشل لاح في الأفق في تلك الفترة. وعلى هذا الأساس، عمد هؤلاء الليبراليون الاجتماعيون إلى إقرار تعويضات للخاسرين من تلك التحولات، بالموازاة مع المراهنة على التربية والبحث العلمي، من أجل تمكين الدول الغنية من الاحتفاظ بريادتها في مجموع القطاعات الإنتاجية أطول مدة ممكنة. وفي غمرة هذه التحولات، استحضرت تنبؤات كان الاقتصادي الأمريكي الشهير توماس فريدمان قد كشف عنها، توقع فيها أن تسير الأجور في العالم بأسره نحو التقارب إلى درجة يولد معها ما أسماه «العالم المسطح». وفي المقابل، يذكر الخبير الاقتصادي البريطاني المرموق كينز: «على المدى البعيد، سنكون جميعا موتى».. واعتبارا من تسعينيات القرن الماضي، أخذت تطفو على السطح أولى النتائج السلبية لاتفاقيات التبادل الحر: تنامي نسبة البطالة وأزمات مالية واقتصادية شبه دورية، وبدا واضحا أن الطبقة المتوسطة هي أكبر الخاسرين من التحولات التي عرفها الاقتصاد العالمي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. تم دق ناقوس الخطر بخصوص مصير هذه الطبقة، بعد أن ارتفعت مديونيتها بمختلف أنواع القروض، ولاسيما القروض العقارية، علاوة على تضررها من المساعي التي بذلت في بداية الأمر للتقليل من أهمية الأضرار التي لحقت بهذه الطبقة. أكثر من ذلك، برزت تحولات عميقة في سلوكات الطبقة المتوسطة، التي تتجه في الآونة الأخيرة نحو التخلي عن كثير من «عاداتها»، والدليل على ذلك تنامي إقبالها على المنتوجات التي تجمل علامة «صنع في الصين» وإحجامها، بسبب تراجع قدرتها الشرائية، على الإقبال بنَهَم، مثل ما كان في السابق، على مواد تحمل علامات إحدى الدول الغربية. عودة الحمائية يتحدث كثيرون عن عودة وشيكة للحمائية، لكنهم لا يتوقعون أن تعود بالشكل نفسه الذي اتخذته في السنوات القليلة التي سبقت الحربين العالميتين الأولى والثانية نتيجة الفائض المسجل في الإنتاج وقتها وكذا نتيجة الصراع على الأسواق. وقد أعاد استطلاع للرأي، أنجزه مركز دراسات لفائدة جمعية مدنية تطالب بفتح نقاش عمومي حول التبادل الحر، الحمائية إلى الواجهة، على بعد أسابيع قليلة من موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الفرنسية، المتوقع تنظيمها في ربيع السنة الجارية. حملت نتائج الاستطلاع سالف الذكر مفاجآت كثيرة، حيث عبّر نحو 71 في المائة من المتعاطفين مع الحزب الاشتراكي الفرنسي، الذي يدخل الانتخابات الرئاسية المقبلة من موقع معارضة سياسية الرئيس الحالي، نيكولا ساركوزي، عن دعمهم إعادة فرض حواجز جمركية على طول الحدود الأوربية، تماما مثل 75 في المائة من المقربين من «حزب الاتحاد من أجل الأمة»، الذي يقوده ساركوزي نفسه، إضافة إلى 68 في المائة من الناخبين، الذين ينتظر أن يمنحوا أصواتهم ل«حزب الخضر» و61 في المائة من المتعاطفين مع «حزب الجبهة الوطنية». مواقف الشارع الفرنسي، بكل أطيافه السياسية، واضحة في هذا السياق ولا مكان فيها للغموض الذي يلف موقف مسؤولي أبرز الأحزاب السياسية في بلاد ديغول، حيث كان كثير منهم يؤكدون، على الأقل إلى حدود بروز الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة، أن الحمائية لن تكون مفيدة للاقتصاد الفرنسي، بل على العكس من ذلك، ستترتب عنها نتائج سلبية. ومع ذلك، فقد أحيى توالي أحداث كبرى في جهات العالم الأربع، بين سنتي 2005 و2011، «الضمير العالمي» وأثار انتباه الكثيرين إلى النتائج المحصل عليها من وراء اتفاقيات التبادل الحر. وقد كانت أولى «الصدمات» في النطاق الأوربي التصويت ب«لا» في عدد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي من طرف الطبقات المتضررة من التوجه العام نحو ترحيل الوحدات الإنتاجية الصناعية نحو الدول النامية، وتقليص مساهمة القطاع الصناعي في إجمالي النمو الاقتصادي الأوربي. وبعد ذلك، تلقى الأوربيون «شبه صفعة» جديدة من الرئيس الأمريكي باراك أوباما حين أعلن، فوْر تسلمه مفاتيح البيت الأبيض من سلفه الجمهوري جورج بوش -الابن، عزمه على دعم الصناعة الأمريكية. وكان لتصريحات أوباما دور حاسم في دفع الشركات الفرنسية ومنتديات التفكير الباريسية إلى إعادة النظر في سياساتها التجارية. فهل يكون هذا الأمر أول خطوة في اتجاه عودة الحمائية من جديد؟!.. عن «لكسبريس»
عوْلِمُوا أنفسكم!.. لا يتضمن كتاب «عوْلِمُوا أنفسكم!» لصاحبه بيير لولوش، دعوة صريحة إلى تبين العولمة بالشكل الذي اتخذته في السنوات الماضية. كما أنه ليس مرافعة تدافع عن العولمة ولا يرفع مطالب بتبني أفكار ومبادئ العولمة. كما لا يقدم الكتاب دروسا في كيفية مواجهة العولمة قبل أن تخرج نتائجها السلبية عن السيطرة. ذلك أن كاتب الدولة الفرنسي في التجارة، على سبيل المثال، لا يجهل مطلقا الأخطار المحدقة بالطبقة المتوسطة في بلاده جراء السير قدما في تبني مبادئ العولمة، إضافة إلى التهديد الذي قد يشكله تقليص حضور الصناعة في النسيج الاقتصادي الأوربي على مستقبل القارة العجوز. وفي المقابل، لا يخفي هذا الكتاب حاجة فرنسا، الماسة، إلى عدم الاطمئنان إلى سلوك اللا مبالاة الذي تتخذه بروكسيل تجاه ما ظهر من نتائج العولمة غير المبشرة، ويدعو باريس، تبعا لذلك، إلى التوجه نحو بلورة سياسة صناعية على الطريقة الألمانية عمادها التجديد والابتكار. ولا يبدو أن ثمة اختلافات كثيرة بين هذا الكتاب، الذي صدر عن دار النشر «دو مومون»، ومؤلَّفي «الحمائية المحتومة»، للكتاب فرانك ديديو وبينجامان ماس ستامبريغير وأدريان دو تريكورنو، الذي وضع الأصبع على النتائج السلبية لتبني العولمة وتوقَّع عودة الحمائية من جديد، بل دعا، بشكل صريح، إلى «حماية أوربا» دون أن يفصل في الأساليب التي يمكن أن تعتمدها الدول الأوربية من أجل فرض الحمائية والأشكال التي ستتخذها هذه الحمائية.