برحيله، أول أمس الثلاثاء، تكون آلة الوتر قد فقدت أحد أبرز العازفين عليها، المجددين لها، والذين غنوا بها أغاني رددها حتى الذين لا ينطقون اللغة نفسها، وأطربت عشاق الأغنية الأمازيغية، وساهمت في فك العزلة عنها... الفنان محمد رويشة، صاحب حوالي نصف قرن من الإبداع والأنشودة على نغمات الوتر، رحل عن الحياة يوم أول أمس، وقبله بأسابيع غنى في إحدى سهرات القناة الأمازيغية إحدى أغانيه الشهيرة التي ردد فيها لأكثر من مرة مقطعا يفيد بأن «كل من خرج من التراب سيعود إلى التراب». وبرحيله، تكون الثقافة المغربية قد فقدت أحد أهراماتها الشامخة التي تنشد الحب والتسامح في جبال الأطلس، إلى درجة أن لقبه البعض ب«فريد الأطلس». «إنها الأيام، لا تعرف التقاعس، لا تعرف التوقف»، كما غناها في مقاطع أغنية أخرى حول فلسفة الحياة والموت، كتب كلماتها الشاعر عمر الطاوس. حكيم في جلساته الخاصة، وحكيم في تصريحاته، وحكيم في أغانيه.. وعندما يبدأ في تحريك آلة الوتر، يحس المستمع وكأن الآلة تتكلم، وتغني في الآن نفسه، وهو الذي أنقذها من خطر الانقراض الذي كان يهددها، قبل أن يخلق حوله مدرسة خاصة أنتجت عددا كبيرا لكن الفنانين في عدد من مناطق الأطلس. وبالرغم من أن اسمه ارتبط بشموخ بالأغنية الأمازيغية، فإنه ظل دوما يرفض خطاب التقوقع على الذات باسم الحفاظ على الخصوصية. فقد غنى بآلة الوتر وبإيقاعات الأطلس أغاني بالعربية، وصنع صداقات كبيرة مع عدد من الأسماء الفنية المغربية التي صدحت بالأغنية الدارجة. مارس الفن، وامتهنه منذ البدايات الأولى لستينيات القرن الماضي، ومنذ هذه البدايات تألق نجمه في مناطق الأطلس. دخل الإذاعة الوطنية في منتصف الستينيات، وسجل فيها عددا من أغانيه، وشارك في سهرات داخل المغرب وخارجه. وازداد تألقه بمصالحة المغرب الرسمي مع العمق الأمازيغي، وظل وجهه مألوفا في سهرات تلفزية كان دوما يتألق فيها بأقواله التي تنطق بالحكَم، وتواضعه المبالغ فيه أحيانا، لكنه دوما بكامل الثقة في الذات، وأحيانا بنفس المبالغة في التواضع. عاش طفولة صعبة.. فقد والده صغيرا، وكبر مع محن الحياة في مغرب عميق رفقة والدته.. وتوجه إلى الفن الذي يعتبره دوما موهبة إلهية يمنحها الله لمن يشاء.. وتمكن من تحقيق الشهرة. وعندما كان يسترجع ذكرياته، يقول إن أحلاها كانت في امتلاء مسرح محمد الخامس عن آخره، بداية ثمانينيات القرن الماضي، بمعجبين جاؤوا لمتابعة سهرة له، ما اضطر العشرات منهم إلى الوقوف والجلوس في الممرات. منذ حوالي شهر، أصيب الفنان محمد رويشة، وهو في مدينة خنيفرة، بوعكة صحية استدعت نقله إلى المستشفى الإقليمي. وتبين أن الأمر يتعلق بأزمة قلبية تستلزم نقله إلى مستشفى آخر بتجهيزات كبيرة. وتدخل الأصدقاء لنقله إلى مستشفى الشيخ زايد بالرباط، واستفاق الفنان من غيبوبته، وأجريت له عملية جراحية على مستوى القلب، وعاد الفنان إلى بيته، مؤكدا أنه سيعود مجددا إلى ساحة الفن، لكن العودة لن تتحقق مرة أخرى، وآلة الوتر ستعيش الحزن على فراق أنامل تجيد العبث بأوتارها، وتجعلها تغني وتنشد ولو مكرهة. وإلى جانب الأنين الذي تطلقه، فإن الكلمات التي يغنيها بدورها لا تقل تأثيرا في المتلقي. فقد غنى للحب بحكمة، في عشرات المرات، دون أن تشبه الأغنية الأخرى، ودون أن يسقط في الابتذال، ولا في الرتابة. وبلغة المحب الحكيم، قال في أحد مقاطع أغنية شهيرة له «قل لمن لم يستطع أن يمنح أي شيء لمن هو عاشق.. قل ماذا بإمكاني أن أفعل للقدر.. لقد نال مني العطش.. والطريق نحو الحبيب طويل.. من هو في وضعي عليه أن يبكي وينوح» والكلمات تتقلب بين المد والجزر، بين الترخيم والترقيق..تقدم تارة وتؤخر تارة أخرى، ومعها تزيد أصوات النساء، وإيقاع الدف في إعطاء شحنة زائدة للمضمون، تجعل المتلقي يرتقي في التذوق درجات عليا. ولد محمد رويشة بمدينة خنيفرة سنة 1950، ودرس في الكتاب القرآني، وتلقفه الفن دون أن يتجاوز مستواه التعليمي المدرسة الابتدائية. وعكس ما دأب عليه بعض الفنانين الذين يغادرون البلدة بمجرد البدء في صنع الاسم، فقد ظل هذا الفنان الشامخ وفيا لمدينته التي لم يغادرها إلا لإحياء السهرات وحضور الدعوات. فيها أمضى محن الطفولة، وفيها صنع اسمه، وفيها ووري الثرى. كما ظل في خضم التحولات الاجتماعية التي عرفها وفيا للجلباب ذي البصمات الأطلسية، في إشارة إلى الوفاء للانتماء، للأصل، وللعمق الثقافي.