لم أصدق الخبر للوهلة الأولى وظننت أنه قد يكون من الإشاعات التي ألفناها والمماثلة لتلك التي تداولتها الألسن لما كان الفقيد يرقد في مستشفى الشيخ زايد بالرباط مؤخرا وقد تم تكذيبها في حينها اتصلت على التو هاتفيا بصديقي «سي حسن الكليتي» وهومن أفراد أسرة الفقيد ووصلني صوته وهو على الطريق في اتجاه مدينة «خنيفرة» مبحوحا تخنقه الدموع . وقتها فطنت إلى صحة الخبر وحدوث الفاجعة وقدر الله الذي لا راد له وبالتالي لم نتمالك نفسينا وتداعينا بشكل عفوي على وقع مرارة الفراق الذي حال بيننا وبين ما تواعدنا عليه مؤخرا في أن نقوم سي حسن وأنا بزيارة عائلية لفقيد الأغنية والموسيقى الأمازيغية الكبير سي محمد في بيته وقتما تهيأت الظروف لنفرح جميعا بشفائه بعد خروجه من المشفى. وفي شوارع مدينة أزرو كنت أجول تائها وكلما صافحني وعانقني مواطن أو فنان لا أسمع بحسرة وألم عميقين إلا كلمة عزاؤنا واحد وإنا لله وإنا واليه راجعون. كلمات تجعلك تدرك فعلا أن بلادنا فقدت وعن حق رجلا كبيرا استطاع أن ينسج بأنامله الرقيقة والناعمة قصة حب رائعة لبلده وشعبه. محمد رويشة سلطان آلة لوتار غنى سي محمد للداخل وكان وطنيا كبيرا بخيط أمازيغي رفيع تارة وعربي تارة أخرى وغنى أيضا في عدد من المناسبات والمهرجانات والمحافل الدولية وكان سفيرا فوق العادة لبلادنا بآلته الوترية وبأغانيه الراقية التي نظم أكثرها بنفسه ولحن بعضها لشعراء أمازيغيين كبار مذ ولد في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي بمدينة خنيفرة الشامخة وحتى آخر مشوار حياته ومساره الفني الغزير والغني. لقب سي محمد أمازيغيا « برويشة « و يعني -اخلط شيئا- كما كان يصرح بذلك بين الحين والآخر في حياته وفعلا استطاع الرجل عبر مساره الفني الغني أن يخلط الأداء الموسيقي العالي الرفيع وزنا وأداء بالأغاني الأصيلة في فرادة متميزة تستلهم دواخل الوجدان والروح المغربية التي تعشق الفن الراقي الذي ينساب كالماء العذب الصافي من ينابيع جبال الأطلس المتوسط وكصبيب نهر «أم الربيع» الذي لا ينقطع عطاء وتدفقا . في كل منزل بالأطلس المتوسط بل والوطن كله وفي كل دكان حرفي أو بقال أو من مسجلة سائق «طاكسي» أو بائعي الأشرطة الغنائية يستحيل أن لا تعثر على سي محمد رويشة حاضرا على الدوام يصدح بصوته القوي والفريد وبشموخه ورقة كلماته وعمق موسيقاه التي عمل على أدائها بشكل مهذب و بحب وصدق منقطع النظير ولذلك لا تمل الأذن تكرار سماع انتاجاته الغزيرة بالفيض الفني وهي علامة وميزة لا تتوفر إلا للفنانين الكبار من أمثاله. منزل سي محمد رويشة يعتبر «زاوية» وقبلة لمختلف الزائرين والمحبين والمعجبين كما يحلو لصديقي «حسن الكليتي» أن يقول ويذكرني دائما عندما ندردش ونتحدث في تعداد مناقب الرجل كلما أتيحت لنا فرصة اللقاء. وبحق يعتبر الرجل معدنا حقيقيا في اللطف والتواضع وكرم الضيافة وسعة القلب للجميع وحبه لأسرته الصغيرة ولوالدته رحمة الله عليها حتى الثمالة حيث كرس لها أغان عديدة سكب فيها العاطفة والإحساس المرهف للابن البار وكان إذا دخل إلى المنزل أثناء حياتها في وقت متأخر من الليل ووجدها نائمة لا يمكن أن يغمض له جفن إلا بعد الحديث معها بلطف ويستفسر بحنو عن أحوالها مما يشكل بعدا إنسانيا متأصلا في الرجل وبهذا عرفناه وعرفه كل أصدقائه ومحبيه وعشاقه وهكذا كان تعامله اليومي مع كل الناس. في مناسبات أعراس أو مناسبات مختلفة أتيح لنا الحضور فيها بحضرة سي محمد رويشة تحس به طائرا يحلق بعيدا في سماوات الفن الجميل والأصيل حتى تحسب انه لن يرسو على الأرض بل كثيرا ما تفيض عينياه دموعا عندما تنسجم الكلمة العميقة مع الميزان الوتري العالي والطويل النفس الذي يعشق ركوبه ولا يركبه إلا الفرسان . محمد رويشة حلاوة الروح بكل احترام وتقدير كبيرين لجميع الفنانين العازفين على آلة» لوتار» في الأطلس المتوسط لا أحد منهم وبشهادتهم جميعا يستطيع ركوب نوتات سي محمد البالغة الصعوبة و التعقيد وكل اجتهادات هؤلاء الفنانين على أهمية انتاجاتهم أيضا مهما علت في سماء الإبداع على هذه الآلة الجميلة لا تخرج عن دائرة مدرسة سي محمد التي عمق أوتادها وغرسها في تربة المغرب الحبيب وجعلها قمة عالية تشهد بكبر وشهامة الوطن وعلو كعب فناناته وفنانيه . « شكرا الله اكبر بك» كلمة طيبة كانت دائما تخرج من فم سي محمد كلما شكرته على أغنية غناها أو في لحظة شكر وعرفان وإعجاب وهو يدخل مسربا من مسارب وشعاب مقاطعه الموسيقية . يقولها ويبادلك التحية دون أن يوقف مجرى الموسيقى وينحني بكل تواضع إلى جهتك بعيدا عن مكبر الصوت ليحييك في تواضع الكبار. إن مدينة خنيفرة الجميلة والعاشقة والمغرب الذي لا يلد إلا الكبار في كل المجالات من أمثال سي محمد يلبسان اليوم حلة الحداد على رجل حول الآلة الوترية والغناء الشجي الراقي إلى حب فريد وبكل المعاني والتقاليد والثقافة المغربية الأصيلة والسخية والدافئة . الحاجة إلى محمد رويشة وجهت بهذه المناسبة الأليمة نداء إلى كل المهتمين ومن كل الجهات ولكل محبيه وعاشقيه وكل الإرادات الحسنة والغيورين في وطننا الحبيب للتفكير والمبادرة باستعجال إلى إحداث مؤسسة تحمل اسم الفقيد تعنى بالتراث الذي خلده وخلفه الفقيد وذلك لتربية الأجيال المغربية الحاضرة والقادمة على اقتفاء أثره وأخذ الدروس والعبرة من مدرسته واستلهام تجاربه حتى لا تضيع من بين أيدينا تقاليد آلة» لوتار» التي رسخها سي محمد في مشهدنا الثقافي والفني خاصة وأن العازفين على هذه الآلة الراقية بإجماع كل المهتمين قليلون في بلادنا بل أصبحوا يتضاءلون شيئا فشيئا . مهما قلنا في حق سي محمد رويشة لن نوفيه حق قدره لأنه رجل متعدد الجوانب فنيا وإنسانيا وباختصار انه مدرسة كبيرة استقى أسسها من التراث الغني الذي خلده بشكل خاص كل من باني ومؤسس الأغنية والفن الأمازيغيين المرحوم «حمو أوليزيد « وسي بوزكري» رحمهما الله وغيرهم من فطاحلة وقيدومي الفن الأمازيغي الكلاسيكي وهم كثيرون. لكن ما يميز الفقيد أنه استطاع بعصاميته الخلاقة تطوير هذا التراث وجعله مواكبا للتطورات في المجال الفني وللمخيال الشعبي المغربي الذي دخل وتسرب إلى ثناياه برقة وبخفة ومسافة جمالية وبعد مهنيي خلاق كما مزج فيه الحديث والمعاصر بلباقة منفردة حافظت في ذات الوقت على أصالة وخصوصيات العزف والأغنية الأمازيغية وهذا ما ميز مدرسة سي محمد رويشة . محمد رويشة الغائب الحاضر وإن لخسارة كبيرة وفاة سي محمد رويشة المدرسة العميقة الجذور في ثقافتنا ولغتنا الأمازيغية التي هي جزء لا يتجزأ من تراثنا الوطني المتعدد والمتنوع الذي أبى الفقيد إلا أن يترجمه فعليا لما غنى بلغة الأم واللغة العربية الدارجة كثيرا والفصحى أحيانا وكأنه يقول لنا جميعا إن المغرب هو هذا الكيان الشامخ في كل تعدده وبكل لغاته ولهجاته وثقافاته التي تقوي لحمته وتماسكه ووحدته الوطنية. عزاؤنا الحار لأسرته الصغيرة وبدون استثناء ولابنه «حمد الله» الذي رضع من مدرسة والده الفقيد حيث علمه وأعطاه مفتاح العزف على آلة «لوتار» التي نتمنى له صادقين أن يصعد بها إلى أعالي قمم الموسيقى واللحن والغناء الراقي والعطاء الفني تيمنا بما تركه والده الفقيد من إنتاج غزير وراقي. كل تعازينا الحارة أيضا إلى الفنانات والفنانين المغاربة بدون استثناء وعلى اختلاف مشاربهم وألوان واتجاهات إبداعاتهم الفنية دون أن ننسى ضباط الإيقاع الذين رافقوا سي محمد في مسيرته الفنية ونخص بالذكر «سي ميلود « الذي يعتبر رفيقه التاريخي ولا يفارقه كالظل في كل وقت ومكان. و»سي ميلود» اليوم يفقد رفيق الدرب و أعز صديق في السراء والضراء وكذلك الشأن مع» سي أوطلحة» وغيرهم كثير نستسمحهم إذا لم نذكر أسماءهم كلهم. غنى سي محمد رويشة في يوم من الأيام عن مدينة خنيفرة وقال مخاطبا إياها « خنيفرة ماننساك حتى نموت حداك « وقد وفى بوعده .واليوم تهب هذه المدينة الشامخة معقل «موحى حمو الزياني» رمز النضال من أجل الكرامة والاستقلال الوطني لتودع ابنها البار لها إلى مثواه الأخير والذي أحبها وكانت هواءه وملاذه وعشقه الأبدي كوتره . فكل العزاء الحار والخالص إلى شعبنا الكريم وأبناء خنيفرة البررة .تحية وطنية عميقة لهم ولهذه المدينة التي أنتجت نساء ورجالا كبارا من أمثال الفقيد سي محمد رويشة العزيز وغيره. إن العين تدمع والقلب يحزن لفراقك يا سي محمد العزيز ولا يسعنا إيمانا بقدر الله المحتوم إلا أن ننحني احتراما وإجلالا أمام روحك الطاهرة ونقول لك شكرا جزيلا على ما قدمته وأسديته لشعبنا من تحف و روائع فنية وموسيقية تشهد بروعتك وأصالة مغربيتك ووطنيتك الصادقة. نم قرير العين عزيزنا سي محمد مرتاحا في قبرك وكن على يقين أنك ماتزال وستبقى حيا بيننا شامخا عاليا ك كعلو وشموخ الوطن وإننا نتضرع ونسال العلي القدير أن يلهمنا وأسرتك الكبيرة والصغيرة الصبر والسلوان وحسن العزاء في فقدانك وأسكنك الله جناته الواسعة مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .وإنا لله وإنا إليه راجعون أكرحم ربي أسوسع غيفش أيانزور أخثار امازيغن .