تلعب المؤسسات المنتخبة دورا كبيرا في ممارسة دور الرقابة على المال العام، وقد أناط بها مشروع دستور 1908 بعض المهام الدقيقة التي تعتبر اليوم من صميم النظام الديمقراطي الحديث. وهكذا فإن وزارة المالية –حسب المشروع- مطالبة بأن «تسلم إلى منتدى الشورى في خاتمة كل شهر لائحة داخل الدولة وخارجها مفصلة تفصيلا جزئيا مصادقا عليها من الوزير الأكبر» (المادة السابعة والستون)، وهذا الكشف بالمداخيل والنفقات في آخر كل شهر، سيمكن ممثلي الشعب من المراقبة الدقيقة للتدبير المالي الحكومي، وسيحد من إمكانية استغلال أموال الدولة. كما أن المشروع يلزم هيئة الوزارة بأن لا تنفق أي شيء من مال الدولة في أي سبيل كان «ما لم يصادق عليه منتدى الشورى «المادة الثامنة والستون. ويستعين مجلس الأمة لتفعيل هذه الرقابة على المستوى اللامركزي، «بهيئة للتفتيش مؤلفة من ستة أعضاء ورئيس، تنقسم إلى قسمين، يتجول كل قسم منها في نواحي السلطنة وبلدانها بصفة دائمة للبحث في كل أمور الإدارات المخزنية، فيزور كل بلدة وقبيلة مرة في كل أربعين يوما على الأقل، ويبعث بتقارير إلى الرئيس الذي يكون مقامه في نفس مجلس الأمة»، كما يستمع إلى شكاوى المواطنين ويتوصل بعرائض التظلم، و»يحق لهيئة التفتيش أن توفق أيا من الموظفين» إذا ثبت خلل في أعماله، باستثناء نائبي طنجة ومراكش، ويباح لها أن تضع في مكان الموظف المعفى من يقوم مقامه مؤقتا، ريثما يأتي جواب منتدى الشورى في أمره» المادة السبعون. هذه الهيئة هي بمثابة مجلس للحسابات يتقصى مسالك المال العام، ويتتبع أوجه إنفاقه، ويقوم بدور الرقابة في عين المكان. ومن الطرائف في مشروع دستور 1908 أنه يحدد رواتب كبار موظفي الدولة كالوزراء والأمناء، وكذلك النواب: أعضاء مجلس الأمة، وذلك إمعانا في الدقة والحرص، وسد الطريق أمام الجشع والطمع في استغلال المال العام الذي يتبعه امتلاك السلطة أو القرب منها. كما يحدد منتدى الشورى في جلساته الأولى، المبلغ المالي الواجب للسلطان، وهذا من أسمى مظاهر الشفافية والتدبير الديمقراطي للمال العام. غير أنه بالرغم من أهمية هذا المشروع، فإنه لم يلق أي صدى لدى المخزن الحفيظي، خصوصا بعد القطيعة التي حصلت بين السلطان وبين جماعة «لسان المغرب» منذ البيعة المشروطة. كما أن هذا المشروع لم يكن له صدى في الأوساط الشعبية العامة، خصوصا في البوادي الثائرة، التي لم تكن ترى في تجاوز واقع الاحتلال والتسلط الأجنبيين للمناطق المغربية غير المواجهة المباشرة. والواقع أن المغرب كان يعيش آخر أيام استقلاله الذي استطاع أن يحافظ عليه أزيد من عشرة قرون، على خلاف الدول المجاورة، فكان التوقيع على معاهدة الحماية بصفة رسمية يوم 30 مارس 1912، إيذانا بدخول المغرب مرحلة جديدة، على كافة المستويات، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا. ولم يكن الفكر السياسي المغربي في هذه المرحلة بمنأى عن هذا التحول، فكل فترة تاريخية تفرز منظريها، والمفكرين الذين يعبرون عن آمال وتطلعات المرحلة. خلاصات واستنتاجات هكذا يتبدى لنا الدور السياسي والفكري الذي قام به العلماء للإسهام في المسألة الدستورية، وفي تنظيم السلطة في بداية القرن، من خلال مجموعة من المشاريع الدستورية التي تأرجحت بين الرجوع إلى الشرع والقوانين الإسلامية، وإضافة أفكار جديدة ذات مصدر غربي أوربي. ومن الواضح أن المسألة الدستورية في المغرب «تفتقت في لحظة خيم عليها البحث عن مشروع مجتمعي يكفل للمغاربة التقدم والارتقاء على مصاف الدول الأوربية آنذاك»، والتخلص من هيمنتها، وذلك على خلاف التطور الدستوري في الغرب الذي اندرج أساسا ضمن مشروع ديمقراطي، مر بالعديد من المراحل ومن المحطات الصراعية عبر تراكمات تاريخية متعاقبة ومسترسلة، قبل أن يصل إلى تقييد السلطة وتوسيع فضاء الحرية. وانطلاقا من هذه الحقيقة يمكن أن نستنتج بعض الخلاصات. إن الاقتناع بالمسالة الدستورية، لم يكن نتيجة تطور داخلي محض بالرغم من أهمية هذا العامل، ولكن المحرك الأساسي لها كان هو المواجهة مع الغرب، مع بداية الاحتلال الأوربي، وما أحدثه من تحولات داخل النسيج الاجتماعي والثقافي، وكذا ما أحدثه من تأثير مباشر على مستوى الدولة وجهاز الحكم، فهذه المواجهة أو الصدمة مع الآخر، هي التي دفعت الوعي المغربي إلى تشخيص المعوقات التي تعرقل الإقلاع، وفي نفس الوقت، تحديد سبل التقدم والارتقاء إلى مستوى الدولة الغربية. وقد حددت النخبة المفكرة الأسباب الأساسية للتأخر في سيادة الجهل على المستوى الاجتماعي، وفي الاستبداد على المستوى السياسي، واتفقت على ضرورة وضع حد للجهل من خلال اكتساب المعرفة وإشاعة التعليم، والقضاء على الاستبداد من خلال الدسترة. ويمكن اقتباس مقولة خير الدين التونسي حول هذه الثنائية للدلالة على ذلك، فهو إن لم يكن مغربيا، فإنه يعبر عن نفس اهتمامات النخبة المغربية بحيث اعتبر أن: «.. سعادة الممالك وشقاءها في أمورها الدنيوية، إنما تكون بقدر ما تيسر لملوكها من العلم والمعرفة، وبقدر ما لها من التنظيمات السياسية المؤسسة على العدل ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها». ارتهن العلماء بالمسألة الدستورية، وعلقوا عليها آمال الإصلاح والتقدم، واعتبروا تحقيق الدستور هو «البلسم الشافي للأمراض التي تنخر كيان المجتمع» على كافة المستويات، ولم يتعاملوا مع الدستور على أساس أنه تعبير قانوني وسياسي عن نظام معين، وإنما ربطوا يبن الدسترة والإصلاح الشامل، في وقت كان فيه المغرب تحت مجهر المراقبة الأوربية وضغط الدول الاستعمارية التي كانت تتدرج في النيل من سيادته، فلم يكن الدستور أداة لتنظيم السلطة وضبطها فقط، بل كان بمثابة برنامج متكامل لتجاوز الأوضاع المأزومة على كافة المستويات، ولذلك نلاحظ أن جميع المشاريع الدستورية المنجزة في تلك المرحلة تخصص بنودا للحديث عن أهمية التعليم، ودور المدرسة الوطنية، والمدارس الصناعية والزراعية، كذلك تنظيم الإدارة، وكيفية تعيين الموظفين، بل وحتى رواتبهم، ومالية الدولة وطرق مراقبتها، إلى غير ذلك من القضايا التي تنم عن منظور إصلاحي شامل وتتجاوز السقف المسموح به للدستور عادة. ويمكن القول بأن المشروع الإصلاحي الذي كانت تتشوق إلى تحقيقه فئة العلماء يتخلص في النقاط التالية: إصلاح سياسي ودستوري قائم على فلسفة الشورى، وجعل القرار بيد ممثلي الأمة ووفق إرادتها، وإلغاء نظام الاستبداد والتسيير الفردي وإعادة الاعتبار إلى مفهوم الأمة. إصلاح إداري صارم، مع خلع العناصر الإدارية الفاسدة أو التي ثبت تواطؤها مع الأجانب والوقوف في وجه جميع النزعات السلطوية والاستبدادية والمصلحية. رفع الوصاية الأجنبية عن المغرب، ورفض التدخل الخارجي وإعادة الاعتبار إلى مفاهيم الحرية والاستقلال والسيادة. الاهتمام بالعلوم الدينية والحياتية وخلق الوسائل الضرورية لذلك. إعطاء المكانة الأولى للشريعة الإسلامية وجعلها مصدرا لجميع التشريعات والقوانين. البحث عن التحالف والتعاون مع البلدان الإسلامية المستقلة، وهي رغبة عبرت عنها معظم الكتابات في تلك المرحلة.