تشهد السياسة الخارجية الجزائرية تحولات لافتة تعكس تناقضاتها المستمرة، خاصة فيما يتعلق بموقفها من الدول التي تعترف بمغربية الصحراء أو تدعم الرباط في هذا الملف. فمن المعروف أن الجزائر لطالما تبنت نهجًا تصعيديًا تجاه أي طرف يساند المغرب، إلا أن التطورات الأخيرة تشير إلى تغيير مفاجئ في تعاطيها مع إسبانيا، التي كانت حتى وقت قريب في مرمى نيران الدبلوماسية الجزائرية بسبب موقفها المؤيد لمقترح الحكم الذاتي للصحراء تحت السيادة المغربية. وفقًا لوكالة أوروبا بريس الإسبانية، بدأت الجزائر بإعادة بناء علاقاتها مع مدريد تدريجيًا بعد ثلاث سنوات من القطيعة، وهو ما يطرح تساؤلات حول دوافع هذا التغيير. فهل هو تحول استراتيجي حقيقي، أم مجرد مناورة سياسية فرضتها الضرورات الاقتصادية والضغوط الدبلوماسية؟
ما يثير الانتباه أن الجزائر، رغم استمرارها في تصعيد التوتر مع فرنسا بسبب دعم باريس لمغربية الصحراء، اختارت نهجًا مغايرًا مع إسبانيا، متجاهلة موقفها المماثل للموقف الفرنسي. هذا التباين في التعامل مع نفس القضية يكشف عن اضطراب واضح في السياسة الخارجية الجزائرية، التي تبدو أقرب إلى ردود الأفعال المتسرعة منها إلى استراتيجية دبلوماسية مدروسة.
ويبدو أن الجزائر باتت غير قادرة على تحمل القطيعة مع دولتين أوروبيتين مؤثرتين في آنٍ واحد، خصوصًا في ظل الضغوط الاقتصادية المتزايدة. فإسبانيا، رغم موقفها السياسي الداعم للمغرب، تظل شريكًا اقتصاديًا رئيسيًا للجزائر، خاصة في قطاع الطاقة، حيث تعتمد مدريد على الغاز الجزائري كمصدر رئيسي. ولعل هذا العامل كان أحد المحركات الأساسية وراء قرار الجزائر إعادة العلاقات مع مدريد، في محاولة لضمان استمرار تدفق العائدات المالية الحيوية.
في إشارة إلى هذا التحول، شهدت الفترة الأخيرة لقاءً بين وزير الخارجية الجزائري، أحمد عطاف، ونظيره الإسباني، خوسي مانويل ألباريس، خلال قمة مجموعة العشرين في جنوب إفريقيا، وهي خطوة تعكس الرغبة في إذابة الجليد بين البلدين. كما أن التصريحات الأخيرة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، التي وصف فيها إسبانيا بأنها "دولة صديقة"، جاءت في تناقض تام مع خطابه السابق الذي اتسم بالحدة تجاه مدريد. لكن يبقى السؤال المطروح: هل يمثل هذا التغير في الموقف الجزائري خطوة تكتيكية فرضتها الضرورة أم بداية لتحول أعمق في مقاربة الجزائر لعلاقاتها الدولية؟
لا يمكن فصل هذه التحولات عن الديناميات الإقليمية والدولية التي تعيشها الجزائر، فمع تزايد عزلتها الإقليمية، خاصة بعد التقارب المغربي-الإسرائيلي، وتعزيز التحالفات الاستراتيجية للمغرب مع دول غربية وعربية مؤثرة، تجد الجزائر نفسها مضطرة إلى إعادة تقييم حساباتها. كما أن الأزمة الاقتصادية الداخلية تلعب دورًا محوريًا في دفع النظام الجزائري نحو البحث عن منافذ جديدة لتخفيف الضغوط.
أما على المستوى الداخلي، فمن المرجح أن النظام الجزائري يستخدم التوتر مع فرنسا كأداة لتوجيه الرأي العام بعيدًا عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلاد. فلطالما لجأت الأنظمة الاستبدادية إلى خلق أعداء خارجيين لصرف الأنظار عن المشكلات الداخلية، وهو ما قد يفسر استمرار العداء تجاه باريس، بينما يتم احتواء الخلاف مع مدريد لأسباب اقتصادية بحتة.
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن السياسة الخارجية الجزائرية تمر بمرحلة من إعادة التموضع، لكن من غير الواضح ما إذا كانت هذه التغيرات ستقود إلى نهج أكثر استقرارًا أم أنها مجرد تكتيكات مؤقتة تفرضها الظروف. فالتناقضات التي تطبع مواقف الجزائر قد تجعل من الصعب عليها الحفاظ على مصداقيتها الدولية، خاصة إذا استمرت في تبني نهج انتقائي في التعامل مع نفس القضايا وفقًا للمصالح الظرفية.
في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن الجزائر من التوفيق بين شعاراتها السياسية ومصالحها الاقتصادية، أم أن الضغوط الدولية والإقليمية ستجبرها على تبني مقاربة أكثر واقعية واستدامة؟