مشروع دستور 1908 كان امتدادا للبيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، حيث كان العلماء لا يتصورون البيعة كتفويض مطلق للسلطة كما يحاول أن «يجتهد» البعض اليوم، وإنما هي تعاقد حقيقي بين الحاكم والمحكوم يحدد حقوق وواجبات كل واحد منهما. بعدما وقفنا على السياق التاريخي، وعلى الظروف السياسية الداخلية والخارجية التي أحاطت بهذا المشروع، فإن مضامينه ستقربنا من وعي دستوري متقدم جدا بالنظر إلى الثقافة السياسية السائدة آنذاك. كتب المشروع «بأسلوب تأسست فيه روح الدساتير الأوربية وملامح الأسلوب الصحافي مع الاطلاع على القوانين ومعرفة مواطن الضعف في أوضاع المخزن»، فعلى عكس المشاريع الأخرى «فإن الروح الدينية تقتصر على المبادئ العامة في المدخل، ثم تختفي في تفاصيل البنود». ومع ذلك يصعب أن نحصر هذا المشروع في وثيقة ذات أبعاد قانونية صرفة، بقدر ما هي تعبير عن «مخطط إصلاحي شامل، ينطلق من معاينة دقيقة لأوضاع البلاد والعباد، يتوخى مجموعة من الأهداف القانونية والمؤسسية والسياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية والعسكرية»، ولكنه لا يرقى إلى درجة «مخطط حضاري بكل معنى الكلمة (بحيث) يشكل نقطة تحول في تاريخ الفكر السياسي المغربي ومعلمة من معالم الحركة الإصلاحية التي أيقظت كل أرجاء الأمة العربية من مشرقها إلى مغربها في القرن الماضي». يتكون المشروع من ثلاث وتسعين مادة تتوزع على عشرة أبواب: الدولة والدين والسلطان. أبناء الدولة الشريفة: حقوقهم وواجباتهم. منتدى الشورى مجلس الأمة مجلس الشرفاء كبار الموظفين مالية الدولة رواتب الموظفين الجبايات المدارس الوطنية. ليس من أغراض هذه الحلقات القيام بدراسة قانونية لمختلف هذه الأبواب، بقدرما يهمنا تركيب جميع المقتضيات التنظيمية والقانونية، في بعض العناصر الفكرية والسياسية التي تفيدنا في تلمس تطور الفكر السياسي «المغربي» آنذاك، وفي تطور المسألة الدستورية داخله. ولذلك يمكن أن نصنف هذا المشروع في النقط التالية: شكل الدولة وعناصرها الحقوق والحريات تنظيم الشورى وآليات تقييد السلطة التدبير الديمقراطي للمال العام شكل الدولة وعناصرها يعزز مشروع دستور 1908 منظور الدولة القائم على وحدة سلطة الحكم ومركزية هذه السلطة، أما السلطان الذي «يلقب بإمام المسلمين وحامي حوزة الدين»، ف«يجب على كل فرد من أبناء السلطنة طاعته»، وله العديد من الصلاحيات المركزية التي تجعل منه الفاعل الرئيسي داخل الدستور فب«اسم السلطان تضرب النقود وتخطب الخطب، وله قيادة الجيش الكبرى وإشهار الحرب وعقد الصلح، وإبرام المعاهدات مع الدول، وبمصادقته وإمضائه تعتبر تقارير مجلس الوزارة تقارير منتدى الشورى وتنفذ أحكامها، وبمصادقته وإمضائه يعين موظفو الدولة كبارا وصغارا أو يعزلون، وله المكافأة وإعطاء النياشين والمجازاة، وله العفو عن المحكوم عليهم بالموت أو تبديل الحكم وتخفيفه، وهو الذي يمثل الأمة والدولة معا أمام الدول الأجنبية». إن القرارات الناتجة عن مجلس الوزراء أو عن منتدى الشورى، يحق للسلطان الاعتراض عليها بعدم المصادقة والتوقيع، وهو ما يجعل من الملك أسمى سلطة في البلاد، ومع ذلك فقد نصت المادة الثامنة على أنه «غير مسؤول بأمر من أمور الدولة لا داخليا ولا خارجيا». ويرى علال الفاسي أن «عدم إقرار المسؤولية للسلطان، أمر لا يتفق مع التقاليد المغربية، وإنما هو اقتباس من الدستور البريطاني، بل ويتناقض أيضا مع عدم إقرار المسؤولية الوزارية أمام منتدى الشورى»، حيث إن عدم مسؤولية السلطان عن جميع الأفعال التي يقوم بها، وأمام أي أحد، لا يستقيم مع ما يؤديه السلطان: رئيس الدولة من مهام خطيرة، تفرض مساءلته ومحاسبته، كما هو الشأن في النظم الرئاسية، كما أن «عدم مسؤولية السلطان هذه تتعارض مع تقليد البيعة بواسطة العلماء». كما أن المشروع يضع تقنينا معينا لوراثة العرش وذلك بالتنصيص على أن «وراثة الإمامة عائدة، حسب العوائد القديمة للأرشد من أقرب ذوي القربى». لكن الملفت للانتباه هو أن هذا المشروع الذي يمنح السلطان صلاحيات مركزية أو يجعله غير مسؤول أمام أي كان، يفرض الطاعة للإمام الشريف لأنه وارث البركة الشريفة»!؟ يرى علال الفاسي أن هذه العبارة بعيدة عن مفردات المسلمين المغاربة... وذلك يدل على أن مساعدة أجنبية وقعت في تحرير مشروع لسان المغرب أقرب إلى النفس اللبناني المسيحي». ولكن هناك من يرى أن هذه العبارة وردت في سياق «تأكيد الطابع الديني للدولة»، وضرورة تعزيز ذلك بمفهوم الشرف، «فالدولة المغربية دولة شريفة، وشرفها مستمد من الانتماء الشريف للأسرة السلطانية التي تنحدر من سلالة الرسول»، وهو ما حاولت جماعة «لسان المغرب ترسيخه وتثبيته لإبراز» عراقة النظام السياسي المغربي القائم على الملك الشريف»، خصوصا وأن شخصية البلاد معرضة للطمس والضياع على يد التدخل الأجنبي. هكذا لم يستطع واضعو هذا المشروع أن يتجاوزوا الموروث الثقافي الشعبي، بالرغم من تعارضه مع الفلسفة الدستورية الحديثة التي تستند إلى نظام المؤسسات، وتتجاوز منطق شخصنة السلطة وتقديس الحاكم. كما أن الصلاحيات الواسعة التي أسندت للحاكم كانت بدورها مرتبطة ببعض المعطيات الموضوعية وأهمها الأطماع الخارجية، وسعي الأجانب إلى تجريد المخزن من السلطة التي كان يمارسها، لذلك «فإن ما تم التنصيص عليه من اختصاصات السلطان.. كان يرمي إلى التأكيد على أن مولاي عبد الحفيظ لا يحتاج إلى اعتراف من طرف الدول الأجنبية نظرا لما يمثل من سيادة للدولة، وما تعنيه هذه السيادة من سلطات سامية». الحقوق والحريات من أهم ما يميز مشروع دستور 1908 هو تخصيصه 23 مادة (من 12 إلى 34) لتقنين حقوق وحريات المواطنين، وذلك من خلال العناصر التالية: المواطنة، الحرية، المساواة. المواطنة: - ويبرر مفهوم المواطنة من خلال أول بند في هذا المحور، حيث يطلق لقب مغربي على كل واحد من أبناء الدولة... سواء كان مسلما أو غير مسلم»، المادة الثانية عشر، وهذا الفصل يؤسس لفكرة الرابطة القانونية التي تعقد بين الفرد والدولة. أما في السابق فقد كان «المسلم أينما حل في دار الإسلام يعتبر في وطنه، وينطبق ذلك على المغرب بوصفه جزءا من دار الإسلام»، وبالتالي فإن كل مسلم حل في المغرب كان يعتبر كأي مغربي، بغض النظر عن موطنه الأصلي. ومن جهة أخرى، فإن مشروع 1908 يعتبر غير المسلمين المقيمين بشكل قار في المغرب مواطنين مغاربة ويعاملون على هذا الأساس (اليهود المغاربة). الحرية: تمثل المواد المندرجة في إطار هذا المفهوم أول قانون مكتوب للحقوق والحريات، ويبدو أن مفهوم الحرية كما يقدمه هذا المشروع متأثرا بالمفاهيم الرائجة في أوربا في تلك الفترة حول موضوع الحريات وحقوق الإنسان، حيث لا يلمس الدارس لهذه البنود أنها مستمدة بشكل مباشر من قواعد الشريعة الإسلامية وأحكامها، التي شكلت إلى عهد قريب المصدر الرئيسي للدساتير السابقة. إن الأمر يرتبط بالتصور الليبرالي للحرية، حيث يحق «لكل مغربي أن يتمتع بحريته الشخصية بشرط لا يضر بغيره ولا يمس حرية غيره» المادة الثالثة عشر، وهذا المعنى يعكس بشكل كبير ما ذهبت إليه وثيقة حقوق الإنسان الصادرة سنة 1789 عقب الثورة الفرنسية، حيث إن الفصل الرابع يعرف الحرية بأن «يعمل الإنسان ما لا يضر غيره». كما تعكس المادة الرابعة عشر من المشروع، المنظور الليبرالي لحرية الرأي والتعبير، حينما تنص على أن «الحرية الشخصية تقوم بأن يعمل كل واحد ما يشاء، ويتكلم بما يشاء، ويكتب ما يشاء مع مراعاة الآداب العامة»، وتختص المادة السادسة عشر بالحديث عن حرية الصحافة وتعتبر أن «المطبوعات حرة مع مراعاة الآداب العامة»، كما يدخل ضمن مجال الحرية الشخصية: حرية الاعتقاد «واحترام سائر الأديان المعروفة بلا فرق»، ويحق لأصحاب الديانات «أن يقيموا شعائر معتقداتهم حسب عوائدهم بكل حرية ضمن دائرة مراعاة الآداب العامة»، المادة الخامسة. وبذلك يكون مشروع دستور 1908 قد استلهم مفهوم الحرية من التصور الليبرالي، وهو ما دفع بالأستاذ العروي إلى القول بمشاركة بعض الأعضاء غير المغاربة في صياغة هذا المشروع في الوقت الذي كان فيه المغاربة من جماعة «لسان المغرب» مستعدين لتقبل هذا المحتوى الليبرالي. غير أنه لا يستبعد أن العلماء المغاربة في تلك المرحلة كانوا على علم بما توصل إليه الفكر الأوربي في مجال التنظير السياسي وتنظيم السلطة وحماية الحقوق والحريات. المساواة: يتناول المشروع مفهوم المساواة بكافة أبعادها، فهو يتحدث عن المساواة في ولوج الوظيفة العمومية، ف«جميع المسلمين متساوون في الحقوق أمام وظائف المخزن التي تعطى حسب الكفاءة الشخصية، وليس بواسطة الوسطاء ونافذي الكلمة بالأموال»، (المادة السابعة عشر)، كما يتحدث عن المساواة أمام الضرائب والتكاليف المالية ف«تكاليف الدولة المالية توضع على كل فرد من أفراد الأمة حسب ماليته واقتداره» (المادة التاسعة عشر)، وللمزيد من تثبيت فكرة المساواة بين جميع الناس سواء كانوا في السلطة أو كانوا من العامة بوضع المشروع بأسلوب مباشر بأن «موظفي المخزن من كبيرهم إلى صغيرهم هم كسائر الناس تلزمهم الضرائب والتكاليف المالية» (المادة الحادية والعشرون). ومن جهة أخرى، يعالج المشروع مسألة المساواة بين المدن والقبائل، وتجاوز التمييز بينها، فلا يجوز أن تعفى من الضرائب «مدينة دون مدينة، ولا قبيلة دون قبيلة، وإنما يجب أن تكون التكاليف عامة على جميع الأمة في كل نواحي السلطنة في وقت واحد» (المادة الثانية والعشرون). وعلى قاعدة العناصر السالفة (المواطنة، الحرية، المساواة) يعرض المشروع لبعض الحقوق الإنسانية كحرية التملك، والدولة ملزمة بحماية هذه الحرية ف«كل مغربي آمن على ماله وملكه» (المادة الثالثة والعشرون). ولا يستبعد نزع الملكية لأجل المنفعة العامة، ولكن بعض الخضوع لمسطرة قانونية تتمثل في «قرار منتدى الشورى، ومصادقة السلطان كتابة، ويدفع لصاحب الملك ثمنه الحقيقي سلفا» (المادة الثالثة والعشرون). كما يمنع على «عساكر المخزن عند مقاتلة قبيلة من القبائل أن ينهبوا مواشيها ودوابها وأشياهها. وكل قائد في ذلك يكون مسؤولا أمام منتدى الشورى والسلطان» (المادة الحادية والثلاثون). كما يفتح الحق لكل مواطن «أن يقدم شكوى على أي موظف كان من موظفي المخزن أو غيرهم إن ناله منه ظلم أو أذى أو رأى في أعماله وتصرفه شيئا مما يخالف نصوص إحدى مواد الدستور إلى منتدى الشورى. وعلى منتدى الشورى أن ينظر في شكوى الشاكي بلا إمهال ولا إهمال وينتصر للحق والعدل على كل حال» (المادة الرابعة والثلاثون»، كما «أبطل التسخير والتكاليف المالية غير المقررة من منتدى الشورى» (المادة الثامنة والعشرون). وللقضاء على بعض العادات السابقة التي تتنافى مع احترام حقوق الإنسان، وللحد من بعض مظاهر التعذيب والحط من الكرامة الإنسانية، يبطل مشروع الدستور «الضرب بالعصي والجلد بالسياط والتشهير والتعذيب بأي آلة من آلات التعذيب وكل نوع من أنواع الأذى، وكل صفع يستهجنه طبع المدنية، إبطالا قطعيا من السلطنة جميعا» (المادة السابعة والعشرون). كما أن الحكم على مجرم بالقتل أو بالسجن المؤبد لا يتم «بدون قرار منتدى الشورى ومصادقة السلطان كتابة» (المادة التاسعة والعشرون). ويحرم كذلك «قطع رؤوس العصاة الذين يسقطون في القتال مع عساكر المخزن وتعليقها على الأسوار كالعادة المعروفة، وكل قائد فعل ذلك يكون مسؤولا أمام منتدى الشورى والسلطان» (المادة الحادية والعشرون). كما لابد من الإشارة إلى اعتناء المشروع ببعض الحقوق الاجتماعية العصرية مثل الحق في التعليم، بل وإلزاميته، خصوصا التعليم الابتدائي، للذكور والإناث، واعتبر أن التعليم في جميع رتبه مجاني، حيث ينفق عليه من خزينة الدولة وبإقرار منتدى الشورى، كما ينفق عليه من مدخول الأوقاف أملاك الدولة أو من الأغنياء. إن هذه النصوص، فضلا عن كونها تجسد حماية قانونية ودستورية لمجموعة من حقوق المواطن، الأمة، فإنها تمثل شهادة إدانة لما كان سائدا في واقع المغرب من عادات ومظاهر تتنافى مع أبسط الحقوق الطبيعية للإنسان وللمواطن. ولذلك فإن هذا النص، بالرغم من ضعف انسجامه من حيث الشكل، مقارنة مع الدساتير المعاصرة، فإن جوهره ومضامينه، مثلت في تلك الفترة ثورة حقيقية على الوضع القائم، وهي تعكس في جانب مهم منها، التأثر بالتجربة الأوربية وبالثقافة السياسية التي أصبحت سائدة في البلدان الغربية والتي ترعرعت فيها النظريات الدستورية المعاصرة، وسمحت بتطور المواثيق الدولية التي تستهدف حماية حقوق الإنسان وضمان حرياته الأساسية.