مشروع دستور 1908 كان امتدادا للبيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، حيث كان العلماء لا يتصورون البيعة كتفويض مطلق للسلطة كما يحاول أن «يجتهد» البعض اليوم، وإنما هي تعاقد حقيقي بين الحاكم والمحكوم يحدد حقوق وواجبات كل واحد منهما. يقضى مشروع الدستور بأن المجلسين «يفتحان لمباشرة أشغالهما في وقت واحد بموجب أمر سلطاني» (المادة السادسة والثلاثون). ويفتح منتدى الشورى «بحضور السلطان شخصيا أو بحضور الوزير الأكبر (الأول)، وأعضاء المجلسين، فيتلى الكتاب السلطان المؤذن بمباشرة الأشغال» (المادة السابعة والثلاثون). وتتجلى طريقة عمل المجلسين في البت في الأمور حسب ترتيبها الزمني، وفي حالة تعارض أمرين على درجة واحدة من الترتيب الزمني، يقدم أهمها على الآخر، وللمنتدى وحده تقدير درجة نفع أو ضرر ما يبت فيه من مسائل شريطة أن يباشر هذا البت مجلس الأمة أولا، ثم من بعده مجلس الشرفاء. ويتمتع أعضاء المجلسين بنوع من «الحصانة البرلمانية» كما تكفلها القوانين الحديثة، فكل «عضو من أعضاء منتدى الشورى حر في آرائه لا خوف عليه من المخزن ورجاله على الإطلاق، ولا يتقيد بأمر من الأمور، ولا يساء به الظن ولا يتهم بتهمة لكونه قال ما شاء أن يقول، ولو أنه انتقد على الوزير الأكبر أو الوزراء» (المادة التاسعة والثلاثون). كما يعبر هذا النص عن منتهى الإقرار بحرية الرأي واستقلال المؤسسة التشريعية.. إن الأمر يتعلق بثقافة سياسية حديثة كانت لاتزال طرية في وعي النخبة المغربية الإصلاحية قبل تسعة عقود (..) أي هو يتعلق بأفكار جديدة تسبح ضد ثقافة سلطانية تقليدية لم تكن ترى في استقلال المرء برأي مخالف للسلطة سوى أمارة على الخروج عن الجماعة وإعلان صريح للعصيان. غير أن هذه الحصانة ترفع عن العضو في حالة اتهامه «بخيانة الأمة أو بمحاولة إبطال الدستور أو بالرشوة وثبتت عليه التهمة بموجب قرار الأكثرية من المجلسين فيسقط من عضوية المجلس ويجازى حسب أفعاله» (المادة الأربعون). ولا يمكن أن يشرع المجلسان في مباشرة أشغالهما إلا بحضور نصف أعضائهما على الأقل، كما لا يتم إصدار أي قرار إلا إذا حظي بأغلبية نصف عدد الأصوات زائد صوت واحد، و»إذا تساوت الأصوات يحسب للرئيس صوتان لتعتبر الأغلبية بجانبه» (المادة الحادية والأربعون). وتكون الجلسات مغلقة غير معلنة، باستثناء حضور «السلطان والوزراء وخلفائهم وقاضي القضاة وخليفته أو من يكون بيده إذن خاص من السلطان يقدم لرئيس المجلس قبل الحضور بيوم واحد» (المادة الثالثة والأربعون). أما عن كيفية أعمال المجلس الداخلية، فإن المشروع يحيل على قانون خاص بذلك، وهو على شاكلة القوانين الداخلية للبرلمانات الحديثة. وبخصوص مهام منتدى الشورى، نعثر على ملحق في نهاية المشروع، صيغ بطريقة تشبه المقتضيات العامة التي ترد عادة في نهاية الدساتير الحديثة، من قبيل تحديد من يوكل إليهم الدستور شؤون التعديل والتغيير في مقتضياته أو بعض البنود الجامدة التي لا تقبل التعديل، ولكننا في هذا الملحق نقف عند صلاحيات حقيقية، كان من الأولى أن توضع في متن المشروع، حيث «يهتم منتدى الشورى(..) بسن وتنظيم قوانين كل إدارة من الإدارات الحكومية: للوزارات والمحاكم في القصبات ولدار النيابة، وللمحاكم القضائية والعدول، ولأمانة الاستفادة، وللحسبة، ولأمانة الديوانات، والعسكرية، وللمدارس، وللضرائب والجبايات وغيرها، فيكون لكل من هذه الإدارات والأمور المخزنية قانون خاص بها تسير بموجبه وتعمل بمقتضاه» (المادة الثانية والتسعون). ويتضح من هذا النص أن واضعي مشروع دستور 1908 تحكمهم إرادة بناء دولة المؤسسات التي تنتظم في إطار قوانين واضحة صادرة عن الجهاز التمثيلي الذي يعبر عن إرادة المواطنين، وهم بهذا يعبرون عن تأثرهم الواضح بالتجربة الديمقراطية الأوربية. ولكن المادة الحادية والتسعين تجعل «رأي منتدى الشورى فوق كل رأي، ويقضي العمل به في كل حال وله المراقبة على الإدارات والدوائر المخزنية بلا استثناء»، وهو ما يتنافى مع روح المشروع الذي يمنح للسلطان صلاحيات واسعة وسلطات أعلى من سلطة المجلس النيابي، «حيث إن أية مسطرة توفيقية لم ينص عليها في حالة الخلاف بين الملك والأجهزة الحكومية أو البرلمانية، وفي ما بين تلك الأجهزة نفسها». ولعل إشكالا عويصا كان من المحتم أن يطرح لو دخل هذا الدستور حيز التطبيق»، ولكن هذا النص ينم على تمثل واضعي الدستور لفلسفة النموذج البرلماني المعتمد في إنجلترا، ويظهر ذلك من خلال تبني نظام الثنائية المجلسية، غير أن الظروف السياسية التي كانت تمر بها البلاد آنذاك، كانت تفرض عليهم تعزيز الموقع السياسي للسلطان، وهو ما حال دون اعتماد المنطق البرلماني إلى حدوده المثلى، لاقتناعهم بأن الظرف السياسي لا يسمح بذلك. ولكننا نقف من جهة أخرى على المادة الثالثة والتسعون التي يمكن أن تستنبط منها شيئا آخر، فهي تنص على أنه «لا يسوغ لأحد أن يبطل من مواد هذا الدستور الأساسي، ولا يوقف العمل بها لأي سبب كان على الإطلاق، وأن يغير منها شيئا أو ينقله أو يزيد عليه مادة أو ينقص مادة، ما عدا منتدى الشورى الذي له وحده أن يفعل ذلك»، فأسلوب القطع في هذه المادة يفيد بأن السلطان نفسه «لا يملك أن يأتي هذا فوق الدستور»، وهذا تعبير صريح عن اقتران دسترة السلطة لدى العلماء، بتحجيم سلطات الملك، وتحويل النظام السياسي القائم من نظام الملكية المطلقة إلى نظام الملكية الدستورية، كما عبر عن ذلك علال الفاسي. هيئة الوزراء أو المجلس الوزاري وهم حسب التسمية الأصلية الواردة في المشروع «كبار المسؤولين في المخزن» أو»هيئة الوزارة» كما ورد في المادة الثالثة والستين. وتتشكل هذه الهيئة من الوزير الأكبر «الذي يعينه السلطان» (المادة السابعة والخمسون)، بالإضافة إلى الوزراء الخمسة الذين يقترحهم الوزير الأكبر (المشروع يقول «ينتخب)، «ويعرض أسماءهم على منتدى الشورى، فإن قر الرأي عليهم يعرضون على الملك ويصادق على تعيينهم» (المادة الثامنة والخمسون)، والوزراء الخمسة هم: وزير الحرب، وزير المالية، وزير الخارجية، وزير الداخلية، وزير المعارف. الملفت للنظر في مسطرة تعيين الوزراء، هو أننا بصدد نظام برلماني يعطي الحق للمجلس النيابي «منتدى الشورى» الحق في تنصيب الحكومة، أو في رفضها، وهذا يعد «ثورة دستورية» بالنظر إلى الوعي السياسي لتلك المرحلة، أي أن هناك نوعا من المسؤولية الحكومية تجاه منتدى الشورى. وللوزير الأكبر مكانة متميزة عن باقي الوزراء، فإن عزل مثلا من منصبه أو اعتزل من تلقاء نفسه «عزل معه سائر الوزراء وسقطت الوزارة (أي الحكومة)»، وأما إن «عزل الوزراء جميعهم فلا يعزل الوزير الأكبر ولا تسقط وزارته» المادة الستون، ولا يتحدث المشروع عما سمي في الفقه الدستوري المعاصر بالتضامن الحكومي، بل إن «كل وزير ينظر في الأمور المتعلقة بوزارته الداخلة في دائرة وظيفته (..) وكل وزير مسؤول شخصيا بما يتعلق بأمور وزارته» (المادة الحادية والستون)، ولكن الوزير الأكبر مسؤول عن جميع تصرفات الوزراء وإجراءاتهم. ومن مظاهر الديمقراطية المتقدمة في دستور 1908 أنه يعطي لهيئة الوزارة الحق في تعيين «عمال بلدان السلطنة وقبائلها» و»يحق لمنتدى الشورى أن يعارض في تعيين عامل لم يره جديرا بالوظيفة، ويعمل برأي المنتدى على كل حال»، وهو ما لم تتوفق في تحقيقه جميع الإصلاحات الدستورية المتعاقبة على الدستور المغربي، حيث إن سلطة تعيين العمال مازالت بيد السلطان، وليس هناك دور يذكر سواء للبرلمان أو للحكومة، باستثناء بعض اللقاءات الشكلية التي تعقدها الوزير الأول مع الولاة والعمال في السنوات الأخيرة. كما تستعين هيئة الوزراء لتسيير الشأن العام إلى المحتسبين والأمناء «الذين تقوم بتعيينهم لوحدها»، أما «القضاة وأهل الفتوى والعدول فيعينهم قاضي القضاة بموافقة مجلس الشرفاء» (المادة السادسة والستون)، ورغم دقته النسبية «فإن دستور 1908 يبقى على أية حال غامضا شيئا ما حول بعض النقط، وهكذا فإن القواعد الخاصة بوراثة التاج تبقى جد غامضة، فمنح الإمامة إلى «أحد أكثر المقربين الذي يظهر أكبر ما يمكن من النضج» يفتح المجال لكل أنواع التطلعات، فمع كل تغيير في الحكم هناك خطر حرب أهلية».