الشعر المغربي مازال مُبتلى بظاهرة التأخر في نشر بواكير الشعراء، بالرغم من أن بعضهم كشفَ، منذ فترة مبكرة، عن حُضور شعري مُدعَّم ببحث جدي عن الصوت الشخصي ضمن هذا الفضاء الرمزي المعقد. ويبدو لي، على نحو مفارق، أنه بقدر ما يخلص بعض الشعراء إلى تجربة القصيدة الباحثة عن أفقها الجمالي الخاص، بقدر ما تُخطئهم فرص نشر عملهم الأول الذي يقدمهم للقراء في كامل طراوتهم، وبتلك الدماء الحية التي تجري في شرايين خيالهم الشعري. في أحيان كثيرة، لا يجمع الشاعر بين ميزتين: كتابة القصيدة وتهييء سبل تداولها. ولذلك يركز على الجانب الأول، محاولا تطوير تجربته وتجاوز عثراته، إلى أن تأتي فرصة النشر متأخرة عن موعدها الأول بما يقرب من العقدين. هناك سوء تفاهم جوهري بين قصائد هؤلاء الشعراء وبين الزمن، ولذلك نجد كثيرا من المبدعين يبتكرون لعبة الهامش عن وعي، متسلحين بطاقة النفي الكامنة فيه، محاولين بذلك ترويض الزمن لصالح لعبتهم الشعرية، التي تؤمن بقيم أخرى غير قيم التداول السائدة. لا يتعلق الأمر فقط بمأساة البواكير الشعرية، بل أيضا بالانتظام في النشر، وفق وتيرة تلائم تعقد الكتابة وحاجتها إلى التنفس والإطلالة على الفضاء العام بعد سنوات من الصمت. إن متخيلنا الجماعي لا يحترم، في الواقع، صمت الشاعر، ويعتبر، للأسف، أن توقفه عن النشر إيذان بجنازة مرتقبة ستخرج قريبا إلى حفرتها في الخلاء، لتنعم بشدو العصافير ونباح الكلاب الضالة. لقد أصبحنا نفرح لموت مرتقب للشاعر، الذي طرده المجتمع من جحيمه. وعلى مؤرخي الأدب أن يضيفوا هذه الفصول الجديدة إلى ما جاء في عمدة بن رشيق، لنعرف أن الشاعر، قديما أو حديثا، لا يمكن أن يختار، في الواقع، إلا بين الموت في عزلة أو الموت في قبيلة، تجتهد في أن تجعل الشاعر يعيش خارج ذاته طوال الحياة. لدي إحساس بأن الشعر كان منذ البداية فن الجراح والخسران. وربما كانت بالفعل أول قصيدة، في الكون، قصيدةَ رثاء، تفجَّرتْ داخل إنسان هاله مشهد قتل الإنسان لأخيه(قصة قابيل وهابيل)، كما يرجح كيليطو. من قلب المأساوي تفجرت ينابيع الوجع الأولى في الشعر. ولعل الطرد من الجمهورية، عند أفلاطون، ليس إلا المظهر السياسي لجرح وجودي، لصيق بأرواح الشعراء أينما حلوا وارتحلوا. الحس العام كان دائما يرتاب في الكلمة الشعرية ويعتبرها ابنة الدياجير (الشيطان)، خاصة عندما تتمنع هذه الكلمة عن الاستخدام المجتمعي، وتجنح بذاتها جهة الخلق والرؤيا المخترقة لحجب العقل والنظام. التوظيف السياسي الحديث للكلمة الشعرية هو ابن هذا التراث، الذي يعزل الشعراء ويبعدهم خارج أسوار الجمهورية. طبعا ليس كل الشعراء، وإنما خاصة منهم أولئك المستعصون على الترويض، الذين يحتفظون، في نصوصهم، بأسرار تخص الكائن، قبل أن تعني تلك القبيلة أو هذا الحزب. ولم تعد الجمهورية تعني فقط حدود الوطن، كما نظر لذلك أفلاطون، وإنما أصبحت تعني، في تواشج مع شروط العصر، كل ما يشكل دعما من المؤسسات، بما في ذلك مؤسسات النشر، المرتبطة بدورها بولاءات سياسية وعاطفية قوية، لعلها هي التي تقرر أكثر في منح الامتياز لشعراء دون غيرهم. ربما لم تعد شروط العقود السابقة تحكم بذات القوة الزمن الثقافي الآن. فسلطة الأنترنيت خلقت بالتأكيد فرصة الاختراق، كما أن التحلق في جماعات صغيرة فتح كوة في جدار خفي. لكن كل هذا، لم يحل حقيقة دون استمرار بعض الآثار المؤلمة للعهود السابقة: النشر المتأخر، الكتاب اليتيم، الحرمان من الحق في الإعلام العام، الطبع على نفقة الأبناء، سحب مقعد إلى الخلف والتفرج على المشهد. كل ذلك إلى جانب مرارة الإحساس بالهشاشة: شعرة صغيرة تفصلك عن الهاوية، أيها الشاعر.