في مثل هذا اليوم من العام الماضي، 14 يناير 2011، عرفت تونس أبي القاسم الشابي حدثا كبيرا، ليس بالنسبة إلى التونسيين وحسب ولكن بالنسبة إلى العرب أجمع.. ففي مثل هذا التاريخ فر زين العابدين بنعلي من البلاد كأي خارج عن القانون، الذي مازالت مذكراته تلاحقه... لكن تبعات هذا الفرار لم تطل تونس لوحدها، بل انتقلت إلى العديد من البلدان العربية التي اجتاحتها «موجة» الربيع العربي العاتية فأسقطت ثلاثة من الحكام «الخالدين»، مبارك المسجون والقذافي المقتول وصالح الذي فقد صلاحية الحكم، وهناك من لا يزال يعاند، مثل أسد الشام فاقد الشعبية. لم يكن أحد في العالم بأسره، بساسته ومنظريه ومعاهده التي طالما نَعَتْ تقاريرها الشباب العربي، يظن أن حادثة بسيطة تحدث العشرات، بل المئات، من مثيلاتها في بلداننا ستقلب الطاولة فوق رأس «الشرطي الأول» في العالم العربي.. زين العابدين بنعلي، الذي طالما تغزلت تقارير دول الغرب الرسمية وغير الرسمية بسياساته الاقتصادية التي تجعل من تونس «جنة» بين جيرانها! بل إن «نظريته البوليسية» القائمة على «النمو الاقتصادي مقابل ضبط مجال الحريات» كثيرا ما استهوت العديد من الأنظمة العربية، حتى غدا «النموذج التونسي» في عهد الرئيس المخلوع «ماركة مسجلة» تعقد حولها الاجتماعات في «نادي الاستبداد العربي»، ليبدي «سدنة الحكام الخالدين» إعجابهم بها ونصحهم لأسيادهم باستيرادها وتطبيقها في مجتمعاتهم التي تعاني كسادا سياسيا واقتصاديا.. لكن شابا بسيطا من مدينة صغيرة في تونس الخضراء قرر أن يقلب الطاولة على رؤوس هؤلاء جميعا، وفي مقدمتهم زين العابدين بنعلي، الرئيس الفار، الذي اكتشف بعد طول حكم أنه لم يفهم يوما شعبه كما ينبغي للقائد أن يفعل، ليستجديه في آخر خطاب: «أنا فهمتكم.. أنا فهمتكم»، فيجيبه ذلك المحامي في الفيديو الشهير الذي تداولته المواقع والقنوات العالمية: «بنعلي هرب، بنعلي هرب، الحرية للتوانسة».. هنا إعادة تركيب الحكاية من البداية. الشرارة الأولى كان السابع عشر من دجنبر 2010 يوما عاديا في مدينة سيدي بوزيد الصغيرة، كما هو الحال في جميع المدن «الهامشية» في عالمنا العربي.. مواطنون مغلوبون على أمرهم يسابقون الزمن ويكابدون من أجل تأمين لقمة العيش لأفواه مفتوحة في بيوتهم، يشترك في ذلك الأميون وحاملو الشهادات.. لا فرق، مادامت حكومة بنعلي كما باقي الحكومات العربية لا تولي أهمية للشباب بعد تخرجه من جامعاتها ومعاهدها، فيضطر إلى مجابهة أمواج الحياة العاتية من أجل كسب الرزق، وذلك ما كان يفعله الشاب محمد البوعزيزي، 26 سنة، وهو يدفع عربته لبيع الخضر والفواكه، عله يرجع إلى أسرته بما يقيها ذل الحاجة. غير أن السيناريو ذاته الذي يشترك «كتاب الأنظمة العربية» في صياغته سيحدث، فلاهي تشغل الشباب ولا هي تتركهم يهيمون على وجوههم في الأرض بحثا عن الرزق: أعوان سلطة يصادرون عربة هذا الشاب، لكن أبرزهم كانت «عون التراتيب» فادية حمدي التي تضاربت الروايات حول صفعها للبوعزيزي من عدمه.. أحس البوعزيزي بالإهانة، فقصد مقر محافظة سيدي بوزيد للاحتجاج، لكن لا حياة لمن تنادي.. فاتخذ قراره، وأضرم النار في جسده، ليتناهى الخبر إلى مسامع شباب المنطقة التي ينتمي إليها البوعزيزي، الذين خرجوا في مسيرة احتجاجية تضامنا معه. في اليومين المواليين، 18و19 دجنبر 2010، اتسعت رقعة الاحتجاجات في مدينة سيدي بوزيد، تضامنا مع البوعزيزي واحتجاجا على الأوضاع الاجتماعية المتدهورة، لكن قوات الأمن التونسية التي لم تعتد على هذا النوع من الاحتجاجات قابلتها بعنف شديد، مما أجج نارالغضب في نفوس الشباب، وأدى إلى انتقال الاحتجاجات إلى بلدات ومدن مجاورة. في ال24 من الشهر ذاته، سيحدث تطور خطير للأحداث، ستتحول معه الاحتجاجات السلمية إلى انتفاضة شعبية، وذلك بعد أن أطلقت الشرطة التونسية الرصاص الحي على المتظاهرين في مدينة منزل بوزيان، مما أسفر عن مقتل الشاب محمد العماري، لتنتقل الاحتجاجات إلى كبريات المدن والمحافظات التونسية، فانهار حاجز الخوف الذي كان يكبل مختلف الشرائح الاجتماعية التي طالما كبتت غيظها وامتعاضها من الحالة الاجتماعية والسياسية في البلاد. لكن أين بنعلي من كل هذا؟ «أنا فهمتكم»! عندما اندلعت أحداث سيدي بوزيد لم يكن الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بنعلي، في تونس، بل كان رفقة أفراد عائلته في زيارة خاصة لدبي، لكن المنحى الخطير الذي اتخذته الاحتجاجات فرض عليهم الرجوع إلى البلاد.. وكان أول رد فعل لبنعلي على الأحداث يوم 28 دجنبر 2010، حيث أدان ما سماها ب»أعمال الشغب»، لكن استمرار الاحتجاجات اضطره إلى القيام بتعديلات حكومية شكلية لم ترض الشارع الذي استمر في التعبير عن غضبه. في الخامس من يناير 2011، سيلفظ مفجر الثورة التونسية، محمد البوعزيزي، أنفاسه الأخيرة، وبعد ذلك بثلاثة أيام سيسقط 8 ضحايا في مدينتي تالة والقصرين، ليضطر بنعلي إلى الظهور على شاشة التلفزيون من جديد، ويقدم وعودا بخلق 300 ألف منبصب شغل. وهي الوعود التي لم تستطع الحد من قوة الاحتجاجات، ليعمد الرئيس المخلوع إلى عزل وزير داخليته، وهي خطوة لم تغير شيئا في المعطيات الميدانية، حيث ازدادت حدة الاحتجاجات، مما اضطر بنعلي إلى إلقاء خطابه الشهير في ال13 من يناير 2011. بدا بنعلي في خطابه مهزوزا، وذهبت الثقة التي كان يتحدث بها عن «أعمال الشغب والمخربين» أدراج الرياح. مدعيا أن بعض المسؤولين والمستشارين كانوا يقومون بمغالطته، عبر تزويده بمعلومات غير صحيحة عن الوضع في البلاد، ثم توعد بمحاسبتهم، كما وعد بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية في 2014.. لينتهي به المقال إلى عبارته الشهيرة: «أنا فهمتكم.. أن فهمتكم»، لكن «منظر العقلية البوليسية العربية» لم يفهم شيئا مهما، وهو أن الشعب مل رؤية وجهه بعد 23 سنة من حكمه البلاد بقبضة من حديد. «الهروب الكبير» أعطت صورة بنعلي المهزوزة في خطابه الأخير، والأعذار الواهية التي قدمها، زخما أكبر للمتظاهرين الذين عرفت مطالبهم تطورا نوعيا من الحق في الشغل والحرية والعدالة إلى المطالبة برحيل بنعلي نفسه، حيث تم لأول مرة رفع شعارات من قبيل: «ارحل» و»Game over»، وقد ساهم في ذلك حياد الجيش واكتفاؤه بموقف المراقب، خصوصا بعد الموقف الشهير لرئيس أركانه، الجنرال رشيد عمار، الذي انتقد الأسلوب العنيف الذي تتعامل به السلطات مع المتظاهرين. رغم الحظر والاعتقالات، استمر الناشطون الشباب على المواقع الاجتماعية في شحذ همم المتظاهرين، وهو ما ساهم في توسيع رقعتها لتطال أهم المباني الحكومية، بما في ذلك وزارة الداخلية الحصينة، مما أجبر زين العابدين بنعلي على التنحي ومغادرة البلاد مساء يوم الجمعة 14 يناير 2011، بشكل فاجأ جل المراقبين في العالم العربي، بل والعالم أجمع. إذ لم يكن أشد المتفائلين من ثوار تونس، والمتضامنين معهم في أنحاء العالم، يظن أن «قائد أشد الأنظمة العربية تحصينا» سيفر من البلاد تائها في السماء يستجدي «المأوى» من أصدقائه العرب، دون أن يجد من يلتفت إليه.. حتى استقر به المقام وأسرته في المملكة العربية السعودية، التي قررت استقباله بصفته رئيسا سابقا، لكنها اشترطت عليه عدم القيام بأي نشاطات سياسية. كان هروب بنعلي ومازال لغزا لم تنجل كل تفاصيله حتى يومنا هذا، حيث تضاربت الروايات حوله، بين من يقول إن محيط بنعلي نصحه بمغادرة البلاد خوفا على حياته وحياة أسرته، في انتظار أن تستقر الأوضاع، فيما تذهب رواية أخرى إلى أنه كان ضحية «انقلاب أبيض» نسج خيوطه بعض المقربين منه بدعم من قادة الجيش، الذين أوهموه بتطور الأوضاع إلى حد يستحيل معه السيطرة عليها، ليطالبوه بمغادرة البلاد في انتظار مرور «العاصفة»، لكنهم انقلبوا عليه فيما بعد وأعلنوا تنحيه عن الحكم. مهما تكن الرواية الصحيحة لحادثة «الهروب الكبير» في التاريخ التونسي، بل وفي التاريخي العربي، فإن معطى واحدا كان يشغل شباب «ثورة الياسمين» هو أن رأس النظام قد سقط لكن رموزه مازالت في مكانها. إسقاط رموز النظام أمام شغور منصب الرئيس تولى الوزير الأول، محمد الغنوشي، رئاسة الجمهورية ليوم واحد فقط، إذ عين المجلس الدستوري رئيس مجلس النواب، فؤاد المبزغ، رئيسا مؤقتا للبلاد إلى حين إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وفي اليوم الموالي، 17 يناير 2011، تم تكليف الغنوشي بتشكيل حكومة جديدة تضمنت وجوها من الحكومات السابقة إلى جانب ثلاثة وزراء من المعارضة، لكن هذه الإجراءات لم تفلح في إخماد جذوة الثورة في نفوس شباب لا يرضون عن ذهاب النظام وفلوله بديلا. ورغم أن القضاء التونسي أصدر يوم 26 يناير مذكرة توقيف دولية بحق بنعلي وزوجته وعدد من أقاربهما الذين فروا إلى الخارج في تهم يتعلق أغلبها بالفساد، استمر المحتجون في الخروج إلى الشارع وتوالت الاعتصامات، ودخلت تونس في فوضى عارمة، إذ هرب 11 ألفا (من أصل 31 ألف سجين من زنازينهم) وهاجر نحو 25 ألف تونسي بشكل غير شرعي نحو إيطاليا، وطالت عمليات النهب والحرق والتخريب المنشآت العامة والخاصة. واضطر الجيش إلى نشر آلاف الجنود بمختلف أنحاء البلاد لحفظ الأمن، بعد أن انسحبت قوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية بشكل كامل من مقارها التي استهدفتها عمليات حرق وتخريب انتقاما من «قتلة الشهداء» (رجال الشرطة). فشلت الحكومتان اللتان شكلهما محمد الغنوشي يومي 17 و27 يناير 2011 في إعادة الاستقرار إلى البلاد، بسبب احتفاظهما برموز من حزب «التجمع الدستوري الديمقراطي» الحاكم في عهد بنعلي، الذي سيتم حله فيما بعد بقرار قضائي يوم 9 مارس 2011. وفي 25 فبراير تظاهر أكثر من 100 ألف شخص وسط العاصمة التونسية، مطالبين بإقالة الحكومة وبانتخاب مجلس تأسيسي يتولى صياغة دستور جديد لتونس. وهو ما تحقق، حيث استقال الغنوشي من مهامه يوم 27 فبراير ليخلفه الباجي قائد السبسي الذي شكل يوم 7 مارس حكومة جديدة لم تضم أيا من وجوه النظام البائد، كما استجاب الرئيس التونسي المؤقت لمطالب المتظاهرين وأعلن موافقته على إجراء انتخابات لمجلس وطني تأسيسي. وكان من أبرز القرارات التي تم اتخاذها في تلك الفترة الاعتراف ب»حركة النهضة'' الإسلامية المحظورة في عهد بنعلي وإلغاء جهازي أمن الدولة والبوليس السياسي. صعود الإسلاميين نجحت حكومة السبسي، ولو جزئيا، في إعادة الاستقرار الأمني وتوفير الظروف المناسبة للتغيير السياسي في البلاد، حيث تم، في 10 ماي الماضي، انتخاب الناشط السياسي كمال الجندوبي رئيسا للهيئة العليا للانتخابات، من أجل العمل على التحضير لانتخابات المجلس التأسيسي، التي حُدد يوم 23 أكتوبر تاريخا لها. وبينما كانت الاستعدادات للانتخابات جارية على قدم وساق، كانت الأحكام تسقط تباعا على رأس بنعلي وأسرته، حيث صدر حكمان ضد بنعلي ب35 سنة و16 سنة على التوالي، الأول من أجل نهب المال العام والاختلاس والتربح من الوظيفة والثاني من أجل الفساد. في ال23 من أكتوبر الماضي، أقيمت أول انتخابات حرة في البلاد، تقدم إليها نحو 11 ألف مرشح للظفر ب218 مقعدا في المجلس التأسيسي الذي سيضطلع بمهمة صياغة دستور جديد. أفرزت النتائج الكاملة للانتخابات فوز حركة النهضة ب89 مقعدا، والعريضة الشعبية ب26 مقعدا، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية ب29 مقعدا وحزب التكتل من أجل العمل والحريات ب20 مقعدا، لكن الإسلاميين قرروا التحالف مع الحزبين الأخيرين، وهو التحالف الذي أثمر انتخاب مصطفى بن جعفر، الأمين العام لحزب التكتل، رئيسا للمجلس التأسيسي، كما تم انتخاب منصف المرزوقي، رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، رئيسا مؤقتا للبلاد خلفا لفؤاد المبزع. وقد كلف الرئيس الجديد حمادي الجبالي، الأمين العام لحركة النهضة، بتشكيل الحكومة وطلب من التونسيين «هدنة سياسية واجتماعية لمدة ستة أشهر»، حتى تتمكن السلطات الجديدة من الشروع في العمل وتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة وفي مقدمتها التشغيل. مر عام، إذن، على فرار زين العابدين بنعلي إلى السعودية، وفي هذه المدة جرت مياه كثيرة تحت جسر الحياة السياسية والاجتماعية، ليس في تونس وحسب بل في سائر بقاع عالمنا العربي.. عام عرفت فيه بلاد أبي القاسم الشابي أحداثا كبيرة، طوعها شعب أراد الحياة وقال «لا» لرئيس مهزوز عانت معه البلاد الويلات، لكنه بالمقابل استقبل بصدر رحب رئيسه الجديد، منصف المرزوقي، الذي بكى الشهداء في خطابه المؤثر.. منتظرا منه ومن فريق عمله أن يحافظوا على المبادئ التي قامت من أجلها «ثورة الياسمين»، ثورة عنوانها: «ما عاش في تونس من خانها».
البوعزيزي.. بائع الخضر الذي أشعل النار في ثوب الأنظمة البالي كان مثل غيره من الشباب العربي المحروم من فرصة عمل وإمكانية عيش حياة كريمة، وهو واحد من بين الملايين الذين تم تعطيلهم قسرا عن الأخذ والعطاء، عن تبادل الأحضان مع وطن أضحى «قاسيا» قسوة من تحكموا في تسيير شؤونه رغما عن أنوف العباد.. كانت لديه فرصة أن يعيش حياة عادية، فيجد عملا ويبني أسرة وينشئ خلفا، وربما أحفادا ينادونه «جدي محمد».. غير أن آلة القهر كان لها رأي آخر فدفعته إلى الاختيار الأصعب، لكنها من حيث لا تدري خلدت ذكره في قادم الأيام، وعوض أن يكون له أحفاد معدودون على رؤوس الأصابع ينادونه «جدي» ويضمنون استمرار نسله، ستذكر الأجيال القادمة في العالم العربي أن «الشاب محمد» حررها وحرر آباءها وأجدادها بعد سنين طويلة من القمع والفساد والاستبداد. النشأة ولد محمد البوعزيزي (ويكنى ببسبوسة) في 29 مارس 1984 لعائلة تتكون من تسعة أفراد أحدهم معاق. كان والده عاملا في ليبيا وتوفي عندما كان محمد في سن الثالثة، فتزوجت والدته من عمه. تلقى محمد تعليمه في مدرسة مكونة من غرفة واحدة في قرية سيدي صالح، واضطر إلى أن يعمل منذ العاشرة من عمره لأن عمه كان مريضاً ولا يستطيع العمل، وبعدها ترك المدرسة حتى يستطيع العمل لساعات أطول. تذكر عدة مصادر أنه يحمل شهادة جامعية، لكن إحدى أخواته سبق أن صرحت لبعض وسائل الإعلام بأنه لم ينه دراسته الثانوية. وتقول والدة البوعزيزي إنه حاول الانخراط في صفوف الجيش لكنه لم يوفق، كما تقدّم لعدة وظائف أخرى دون نتيجة، فقرر أن يبيع الخضر والفواكه فوق عربة مجرورة في شوارع سيدي بوزيد. نار الثورة في فجر يوم الجمعة 17 دجنبر 2010، اعترض بعض رجال الشرطة سبيل البوعزيزي، وحاولوا مصادرة العربة التي كان يجرها، فرأى عمه الواقعة وهرع لنجدة ابن أخيه، وحاول إقناع عناصر الشرطة بأن يدعوا الرجل يكمل طريقه إلى السوق طلبا للرزق، ثم ذهب العم إلى مأمور الشرطة وطلب مساعدته، فاستجاب المأمور وطلب من الشرطية (عون تراتيب) فادية حمدي، التي استوقفت البوعزيزي برفقة شرطيين آخرين، أن تدعه وشأنه، فاستجابت ولكنها استشاطت غضبا لاتصال عم البوعزيزي بالمأمور. ذهبت الشرطية فادية حمدي إلى السوق مرة أخرى في وقت لاحق، وبدأت في مصادرة بضاعة البوعزيزي، ووضعت أول سلة فاكهة في سيارتها، وعندما شرعت في حمل السلة الثانية اعترضها البوعزيزي، فدفعته وضربته بهراوتها. ثم حاولت الشرطية أن تأخذ ميزان البوعزيزي، وحاول مرة أخرى منعها، عندها دفعته هي ورفيقاها فأوقعوه أرضًا وأخذوا الميزان. بعد ذلك قامت الشرطية بتوجيه صفعة إلى البوعزيزي على وجهه أمام حوالي 50 شاهدا، حسب بعض المصادر، لكن الشرطية فادية حمدي نفت، خلال محاكمتها، صفعها للبوعزيزي وأصرت على براءتها. بعد ذلك، حاول البوعزيزي أن يلتقي بأحد المسؤولين لتقديم شكوى بالحادث لكن دون جدوى. ثم عاد إلى السوق وأخبر زملاءه الباعة بأنه سوف يحرق نفسه، لكنهم لم يأخذوا كلامه على محمل الجد. وقف البوعزيزي أمام مبنى البلدية وسكب على نفسه مخفف الأصباغ وأضرم النار في جسده. اشتعلت النيران، وأسرع الناس لإنقاذه، ثم اتصلوا بسيارة الإسعاف التي لم تصل إلا بعد ساعة ونصف من إشعال البوعزيزي النار في نفسه. ويوم الثلاثاء 4 يناير الماضي، توفي محمد عن عمر 26 سنة متأثراً بالحروق التي أصيب بها منذ 18 يوماً، وقد شيع جثمانه الآلاف، غير أن أعداداً كبيرة من قوات الأمن منعت بالقوة مشيعي جنازته من المرور أمام مقر البلدية. شخصية العام اختارت صحيفة «تايمز» البريطانية، في عددها الصادر يوم الأربعاء 28 دجنبر الماضي، محمد البوعزيزي شخصية عام 2011، تحت عنوان: «بائع الفواكه المتواضع الذي صنعت معركته من أجل العدالة التاريخ». وأضافت أن محمد البوعزيزي «أشعل الثورة في العالم العربي»، وخصوصا في مصر وليبيا. وتابعت الصحيفة البريطانية أن «شجاعة الرجل ألهمت الجماهير المقموعة في العالم العربي لتطالب بحقها في اختيار مصيرها». وخلصت افتتاحية الصحيفة إلى القول بأن البوعزيزي «لم يكن هدفه تغيير العالم (...) لكن الأحداث الحاسمة لتلك السنة حصلت بفعل شجاعة عدد لا يحصى من الأشخاص في مواجهة التسلط، ومحمد البوعزيزي هو أحد هؤلاء الأشخاص». ومازالت تفاعلات إحراق البوعزيزي نفسه مستمرة على الصعيدين التونسي والعربي، ولا يبدو أنها ستتوقف بعد حين، لأنها كسرت الأختام المضروبة على الأفواه، وأطلقت عنان ألسن كانت تلوك الكلام لوكا قبل فك قيده، هذا إن تكلمت أصلا.. فنطق الكثير منها ب«ارحل» في وجه «نادي الاستبداد العربي»، بعد أن كان يستجديه لسنين قائلا: «ارحم».