أصبحت ظاهرة الفتاوى الدينية الغريبة منتشرة في كل الآفاق، فقد أصبحنا نسمع في الأعوام الأخيرة فتاوى من الغرابة بمكان بحيث بات المسلم يتحسس جانبه متسائلا ما الذي يحدث في الفضاء الديني بالعالم العربي؟ ومن أين خرج علماء فقدوا البوصلة وأشباه علماء بدونها عزموا على تقزيم الإسلام إلى قضايا صغيرة وتافهة ومضحكة؟ ولماذا هذا التوجه نحو إطلاق فتاوى غير منضبطة بدعوى مطابقة الإسلام مع العصر؟ وهل من الضروري أن يظل الإسلام معلقا بين فتاوى التطرف والتكفير والدعوة إلى القتل، وبين فتاوى أكل الحمص والعدس والمشي فوق الطوار، دون أن يتبين لون ما بينهما؟. هذه أسئلة تداعت في ذهني وأنا أنهي من قراءة كتاب الباحث السعودي أحمد عبد الرحمان العرفج «الغثاء الأحوى في لم طرائف وغرائب الفتوى» الصادر مؤخرا. فهذا كتاب أول في بابه، نجح في جمع شتات الفتاوى الضالة إن صح التعبير ولعله من دواعي تأثر كاتبه بالفتاوى التي قلب فيها أن جاء كتابه على شاكلة العناوين المثيرة للفتاوى، التي تتخذ من السجع منهجا في العنونة لكي تمنح لتلك الفتاوى طابعا من الجدية، على غرار ما كان علماء السلف يفعلون في عناوين كتبهم ورسائلهم العلمية. ويسوق المؤلف عشرات الفتاوى العجيبة، التي حاول أصحابها أن يكونوا في الموعد مع المستحدثات، ويكفي سوق هذه العناوين ليتبين للقارئ هول ما يقرأ: تبصير العيون في حكم» من سيربح المليون» (عن البرنامج الشهير في قناة الإم بي سي) الرأي الأمين في الخدم والسائقين إغاثة اللهفان في وضع فتحة الفستان المغازي في نشر التعازي إشغال القناديل في عالم السراويل حماية السيارات من أعين الحاسدين والحاسدات الفوائد في حكم التخلص من الجرائد المصافعة في أحكام المقاطعة الدقيق في حكم التصفيق النهي عن تعلم اللغة الإنجليزية الهفوة في تحريم الشاي والقهوة الأدلة اللماعة في تحريم لبس الساعة فتوى قتل ميكي ماوس كشف الحقائق في حكم الأكل بالملاعق. والمؤلف يستشهد في مقدمة كتابه بأقوال العلماء المسلمين الأوائل والمعاصرين في التحرج في الفتوى والتحلي بالعلم الشرعي ومراعاة المخاطبين وجواز الرجوع عن الفتوى إذا ظهر ما هو مناقض لها بالدليل، وهي مميزات قل أن تتوفر فيمن يتصدون اليوم للشأن الديني وإطلاق الفتاوى، كما يستعيد بعض أقوال ومواقف العلماء السابقين الذين كانوا يفرون من الفتاوى فرارهم من الجذام رغم أنهم كانوا يملكون العلم الذي يؤهلهم لذلك، ليس لأنهم كانوا يرفضون تبيان الموقف الشرعي في المسألة بل خوفا من الخطأ وما يترتب عنه من الناحية الشرعية، بالإضافة إلى أن العلماء كانوا يحرصون باستمرار على التذكير بأن فتاواهم ليست هي رأي الشرع بل مجرد آراء شخصية لهم مستنبطة من قراءتهم للنصوص، ولذلك قد تصح وقد لا تصح. ورغم ما يبدو من أن المؤلف يعطي لكتابه طابعا ساخرا إلا أن طابع الجدية ظاهر فيه بشكل قوي، ذلك أن المؤلف ليس غريبا عن المجال الذي يبحث فيه بحكم تكوينه في العلوم الدينية بالقصيم بالسعودية، وثقافته الشرعية، وهو يغوص في التاريخ الإسلامي مستعرضا آراء ومواقف العلماء لكي يجعل لكتابه صبغة علمية بعيدة عن الكتابة الموسمية التي تتقصد الدعاية. وهو منذ البداية يدافع عن موقفه إزاء من قد ينتقد مبادرته متحججا بأنه ليس من العلماء، وكأن الحديث في الإسلام حكر على فئة العلماء مع أن الإسلام ليس فيه طبقة معينة مغلقة كما هو الأمر في المسيحية، فيقول في مقدمة كتابه: «إن من يحاول الاقتراب من ميدان العلماء سيقال له: من أنت حتى تتكلم في العلماء؟ هكذا من أنت، وكأننا في «نقطة تفتيش أمنية» تبحث عن هويتك لتتعرف عليك، وإن كان التعامل مع نقاط التفتيش أسهل وأسرع ويحسم بسهولة، ولكن سؤال العلماء عنك، لا يمكن أن تَصل فيه معهم إلى حل، لأنك أمام دوائر متشابكة متى خرجت من دائرة دخلت في أخرى. يقال لك: من أنت؟، وإذا نجحت في هذا الامتحان!، سيقال لك: لماذا تعترض على العلماء، ألا تعلم أن لحومهم مسمومة؟، وإذا تجاوزت «هذه اللحوم» سيقال لك: لماذا لم تكتب سرا لهذا العالم، لماذا تجاهر في معارضته؟، ستقول لهم إنه نشر أمره على الملأ فكيف أعترض سرا عليه؟، ومتى اقتنعوا بهذا قالوا: كذا وكذا، وتدخل معهم في نقاش طويل عريض، ومتى سددت عليهم كل الطرق، أشهروا بوجهك السلاح «الصالح لكل زمان ومكان»، وهو قول: «اعتراضك، ليس هذا وقته» نحن في وقت حرج وعصيب». ويقول الباحث إن كثرة الفتاوى في هذا العصر أعطت انطباعا بأن الاصل في الإسلام هو التحريم، فقد بدأ علماء الإسلام الأولون منطلقين من قول الله تعالى «فصل لكم ما حرم عليكم»، أي أن الأصل هو الإباحة والتحريم مفصل بالنص، فجاء أخلاف هؤلاء العلماء فقلبوا المسألة وكأنهم يقولون للناس: ها نحن نفصل لكم ما أحل لكم.