مرّ أكثر من عام منذ أن طلب مني الصحفي رشيد نيني الكتابة على صفحات مجلة «أوال» وبعدها على صفحات جريدة «المساء». وأعترف بأنني شعرت حينها بخليط من الفرحة والتردد، وأردت في البداية أن أعتذر متذرعة بالعمل وبمسؤولياتي الأسرية، التي ظننت أنها ستعيقني عن كتابة مقالين في الأسبوع، لكن الحقيقة أن كل هذه الأسباب لم تكن يوما حائلا بيني وبين الكتابة، وكنت أريد ببساطة أن أعلل بها شعوري بالارتباك وبالغرابة، وأداري بواسطتها تركة من الآراء التي راكمتها حول الكتابة والنشر في المغرب.. لقد استغربت إمكانية أن أحط فجأة، وببساطة، في عالم الكتابة الصحفية دون أن أمر عبر قنوات كثيرة يمر منها عادة أغلب الكتاب، ودون أن أكون وجها إعلاميا معروفا أو عضوا في حزب أو صاحبة أي انتماء أدبي أو نسوي بالرغم من أن كل هذه القنوات لا تعيب الإبداع ولا تفسد للكتابة قضية أو تنتقص من قيمة المبدعين داخلها، لكنه يجب أن نعترف بأنه بسببها وضع الكثيرون القلم جانبا لأنها إطارات لا تناسبهم ولا يمكنها أن تمنحهم فسحتهم الإبداعية العادلة. واليوم، مازلت أحس بنفس الغرابة وبالخجل العميق لأنني مازلت أكتب في حين أن الذي فتح لي باب الممكن لنشر ما أكتبه، كي يقرأه جمهور أوسع من عائلتي وأصدقائي، يوجد اليوم داخل السجن، وأن الذي حررني بطريقة ما من اقتناعي العميق بأن الكتابة هي فن الانعزال ومراوغة الأحلام في الخفاء ودفعني كي أتوقف عن دفن كتاباتي في أدراج المكتب مثل أي شيء يخجل من الظهور على الملأ هو الآن سجين. وأكتب هذا المقال ممزوجا بكثير من عدم الارتياح لأنني سوف اضطر إلى أن أصرف الأفعال داخله في الماضي، لأن رشيد نيني ممنوع حاليا من أن يكتب عن مغرب اليوم لكي يمكنه من تصريف الوقت في الحاضر. لقد مال رشيد نيني إلى الجهة العسيرة من الكتابة.. تلك التي تحفر عميقا داخل الواقع المغربي، وأصبح يجول بمقالاته بين دروب الناس الضيقة ويكتب عن تفاصيلهم الصغيرة التي لم يسبق لأي قلم أن دونها بكل تلك الدقة والرقة، ونجح في أن يكتب عن مغرب الأغلبية بكل تلك الواقعية التي تحرج الكثير من الكتاب، فكانت النتيجة أن أصبح له قراء من كل الفئات، يتابعون ما يكتبه بكثافة غير مسبوقة، لأن المغاربة راقهم أن تحول الكتابة الصحفية المغموسة بالكثير من الأدب والشعر وجهتها إليهم وتميل وتنحدر كثيرا نحو همومهم وتهمس لهم بما يحسونه. وبطريقته تلك ومواظبته على تقشير الواقع المغربي، كان -عن وعي أو دونه- يزيل أقنعة الزيف عن الكتابة الصحفية ويحررها من برودها المستفز ومن بيروقراطية كانت تتنعم بها وتستكين لها. ألا يستحق هذا الشاعر والكاتب والصحفي الحرية امتنانا له؟ بعدما كتب لسنوات بانضباط جندي وصنع بقلمه من المغرب ومن قضايا المغاربة أدبا صحفيا مكتمل التكوين، يمتزج فيه الشخصي بالعام ويلتقي فيه الشعري بالصحفي بكثير من الصدق والسحر؛ وبعدما رسم لوحة جديدة للمغرب الحديث مختلفة عن تلك التي تباع لنا في أكشاك الإعلام الوطني؛ وكان يكتب كل يوم ودون انقطاع بطريقة منظمة عن واقع يعوم في فوضاه، وعن مغرب يراوح مكانه بين الأمل والألم. ومع أنه من الصعب أن تكون الكتابة جميلة حين نضطر إلى الحديث عن مواضيع سوداوية مليئة بحكايات عن الظلم والبؤس، فإن الجميع يعترف بأن رشيد نيني قد برع مع ذلك في تحويل هموم المغاربة إلى نص أدبي مغربي جميل.