كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. بعد أن بشر العقيد بالنظرية العالمية الثالثة وأقام الجماهيرية، بدا مشغولا بالتفكير في كيفية تخليد هذه النظرية على مدى آلاف السنينٍ القادمة. كان أمامه مثال خلد الحقبة الفرعونية، ألا وهو الأهرامات في مصر. فكر في أول الأمر ببناء هرم في الصحراء، لكنه استنتج بعدها أن الصحراء ستدمر الهرم إن لم يدمره من جاء بعده من الحكام. من هنا تفتق ذهنه عن مشروع النهر الصناعي، الذي سيخلد هذه النظرية. وللنهر الصناعي هذا، قصة طويلة سأسردها في حينها، اطلعت عليها من لقاءات خاصة مع الوزير المكلف بالنهر الصناعي، وهو المهندس محمد المنقوش، حين كنت ألقاه في جلسات خاصة ودية وأخوية. في اليوم التالي، استدعاني الأخ جاد الله إلى منزله، لأنه كان مريضي وتربطني صداقة به، كمعظم من كان في سدة الحكم آنذاك. في تلك الزيارة سألته «لماذا لم تدافع عن نفسك؟ لماذا لم تعلن أنه لا علاقة لك بمشروع الكفرة؟»، رد عليّ «لم أفتح فمي وكيل لي كل هذه السباب، لو فعلت لضربت وأهنت». اعتكف جاد الله بالبيت لمدة ستة أشهر، بالرغم من هذا، أُبقُي في منصبه كرئيس للوزراء. تذكرني هذه الحادثة بحادثة مماثلة حصلت بعدها بمدة قريبة، فجأة وبدون مُسبقات، بدأ التليفزيون المحلي إذاعة محاكمة ضابط برتبة عقيد يشغل منصب رئيس قسم العقود العسكرية. تشكلت هيئة المحكمة من مجندات. سألت رئيسة المحكمة المتهم: «كم سرقت في العطاء؟ كم ؟وكم؟ وكم؟»، والعقيد جالس أمامها يتصبب عرقا ولا ينبس ببنت شفة، إلى أن وصلت إلى أقصى الحدود، حيث قالت له: «أتريدني أن أذكر لك في فراش من تنام الآن زوجتك؟». انتهت المسرحية. ومن العجب العجاب أن ذلك العقيد ذهب إلى مكتبه في اليوم التالي وباشر عمله كأن شيئاً لم يكن. وحادثة ثالثة وقعت في موسكو. في هذه الزيارة كان معنا ستة وزراء. تمت مباحثات مكثفة وعقدت اتفاقيات عدة بين ليبيا والاتحاد السوفياتي، من بينها اتفاق شراء سلاح بمبلغ 12 مليار دولار، كما أبلغني أحدهم. وفيما نحن جالسون في قاعة الجلوس في قصر الكرملين، دخل علينا المقدم مصطفى الخروبي ووجه كلامه للوزراء، الواحد تلو الآخر: «مبروك، بزنستو؟ فلان، قداش سرقتي؟ علان، وأنت كم؟ أنا عارفك أنت المعلم، قطعا كل واحد فيكم هبش هبشه كبيرة». لم ينطق أحدهم بكلمة واحدة. انتابني شعور بالغثيان والقرف من هذه النوعية من الرجال عديمي الكرامة والرجولة. في مارس 1976، وأثناء رحلة طبرق السنوية، انضم إلينا المقدم مصطفى الخروبي. وأثناء العودة مررنا بخليج «بُمْبَه»، منطقة من أجمل ما رأت عيني، منظر ساحر الجمال، خلاب للعقول، بحر هادئ، ماء أزرق صافٍ، شاطئ مكسو برمال بيضاء كالثلج على مسافة مئات الأمتار. تستطيع أن تسير في الماء مسافة طويلة قبل أن تغمرك المياه، خال من الصخور والحجارة. زد على هذا أنه بكر. ركب العقيد القذافي والمقدم مصطفى مركباً صغيراً راسياً على الشاطئ، وأخذا يتناقشان في أمر أنور السادات والعلاقات مع مصر. حاول الخروبي إقناع العقيد بأن يُخفف من حدة الاحتقان وأن يجد مبرراً لتصرف السادات. رفض العقيد وكال الاتهامات للسادات. عندها، طلب الخروبي مازحا من رئيس العرفاء (سعد مسعود الذي كان يمسكً بالقارب لتثبيته لأن العقيد لا يحسن السباحة): «اترك القارب يا سعد خليني نغرقه ونموت أنيه والقايد ونتجنب الحرب مع مصر». أخذ سعد مسعود الأمر بجد وعلق: «اللي يبي يقتل القايد أقتله أنيه قبل». في يونيو 1976، كان ابتداء جراحة القلب المفتوح. كلفنا جهداً مضاعفا عدة مرات، وهذا أقل ما يمكن وصفه، بسبب انعدام الأطر المحلية المدربة، والمستوى المتدني للخدمات الصحية عامة والبيروقراطيين المحليين في كل مكان، وتعقيدات الإجراءات المالية وزحمة البواخر في الميناء وتراكم الشحنات في المطار، مما فرض أعباء جمة على رجال الجمارك غير المؤهلين أصلا. في ذلك الوقت، كانت البواخر تنتظر في الميناء عدة أشهر من أجل إفراغ الحمولة. تجنبت كل هذه الإجراءات والمعوقات عن طريق الاتصال بوزير الصحة، الذي كان يتخطى كل اللوائح الإدارية ويصدر الأمر بالشراء (محليا أو خارجيا) ويوقع على أمره «على مسؤولية الوزير المباشرة»، وكذلك الاتصال بأحمد رمضان، سكرتير العقيد بالنسبة للسفن الحاملة لأجهزة أو بضائع تخص مستشفى القلب بتاجوراء، وبناء على اتصالي به يصدر أمراً للجمارك في الميناء بإدخال تلك السفينة حال وصولها للميناء وبأن ترسو على الرصيف المخصص للقوات الم سلحة. كان يتم التفتيش وإكمال الخطوات الإدارية على جميع السلع والمعدات من قبل مفتش الجمارك داخل المستشفى. في شهر يونيو سنة 1976، وأثناء انعقاد مؤتمر وزراء خارجية دول المؤتمر الإسلامي في طرابلس، انتاب العقيد مرض اضطرني للبقاء معه مدة عشرة أيام متتالية. في هذه الفترة، حدثت أمور غريبة. في أول ليلة لي في منزله، ذهبت إلى المرحاض فوجدته قذرا ومكتظا بالصراصير. في صباح اليوم التالي، عند مقابلته، بدأ الحوار بيننا. قلت له: «ليلة الأمس لاحظت أن المنزل غير نظيف، المطبخ والطرقات متسخة والحمام قذر ومليء بالزكرلو» أي (الصراصير). قال: «ماذا أفعل؟ أهلي أناس متخلفون». قلت له: «لا حجة لديك، ربما أنا والآخرون لدينا حجة, الرائد عبد السلام ربما لديه حجة، أما أنت، الرجل الأول فلا تقبل منك أي حجة». قال: «ما العمل؟» قلت: «عَيّن مديرة للمنزل تتكفل بإدارته وتجعله لائقا بك». وافق على هذا الرأي، ومنذ ذلك الوقت، عينت امرأة يوغسلافية لهذه المهمة. ومن المفارقات التي حصلت أيضا في هذه الفترة، والتي تدل على البدائية وعدم التخطيط والتنسيق، أنه كان مقرراً أن يقابل العقيد وزراء خارجية دول المؤتمر الإسلامية. ولما كان مريضا، استشارني وزير الصحة والمهندس طه الشريف بن عامر، الوزير المكلف بمجلس قيادة الثورة (أمين الاتصال) في موضوع الزيارة، فعارضت بشدة وأبلغتهم «أن الرجل مريض ويعاني طوال الليل، حيث يشتد عليه المرض ولا ينام، وهو مرهق، ولا عيب في أن تعتذروا عن المقابلة وأن تبلغوهم أنه مريض، فهو إنسان». لم يعجب رأيي الأخ طه وعلق «سيزعل الأحبة لعدم مقابلة العقيد لهم ونخسرهم وسيشمت بنا الأعداء ويبدؤون في تلفيق الإشاعات». استمر النقاش بيننا، وفي آخر المطاف اتفقنا على أن أبلغهم عند تحسن صحته ليحددوا في صبيحة اليوم الذي يليه موعد الزيارة. فعلا حصل هذا، ولكن بشكل فوضوي. في ذلك اليوم، أردت عمل صورة أشعة لصدر العقيد، ولما لم يرغب وزير الصحة في أن ننقله إلى أي مستشفى، للسرية وخوفا عليه من الخروج من المنزل وهو مريض، قررنا إحضار جهاز أشعة متنقل للمنزل، تم عمل صورة الأشعة. وما هي إلا ثوان بين إخراج الجهاز من قاعة الاستقبال وارتداء العقيد ملابسه ودخول الوزراء، حتى أصبت بصدمة! يريدون إبقاء الأمر في طي الكتمان، وهاهم يحضرون الوزراء بدون تنسيق. لو دخلوا قبل دقيقة واحدة فقط لوجدوا العقيد عارياً وجهاز الأشعة في القاعة. د. الإدريسي الخيري خالد - أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا