يمكن اختصار التوجهات الكبرى للحركة الأمازيغية ذات التوجه العلماني في النقط الآتية: أ - تفضيل المرجعية الدولية على المرجعية الإسلامية؛ ب - الدعوة الصريحة إلى العلمانية، بمفهومها المتحيز والمعادي للثقافة الدينية؛ ج - إحداث تعارض متوهم بين الأعراف الأمازيغية والمرجعية الإسلامية في مجالات الأسرة والمجتمع وما يتعلق بهما من تشريع وقواعد منظمة للحياة؛ د - مناهضة البعد العربي في الهوية المغربية بالترويج لقراءات تاريخية مزورة ومتحيزة، والتلويح عند بعض الغلاة الأمازيغ بأن العرب مجرد غزاة يتوجب عليهم العودة إلى الشرق، مع التمركز حول البعد الأمازيغي وحده في الهوية المغربية؛ ه - اعتبار الحركة الأمازيغية عنصر صد وتوازن مع الحركة الإسلامية؛ و - إهمال قضايا الأمة الإسلامية، بل قد يصل الأمر عند بعض الغلاة الأمازيغ إلى مستوى دعم التطبيع مع الكيان الصهيوني من خلال تنظيم سفريات إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما تأسست في جنوب المغرب جمعية سوس العالمة للصداقة الأمازيغية-الإسرائيلية، تعرضت لمحاصرة شعبية وأهلية شديدة ولم تستطع تنظيم ولو نشاط واحد منذ إحداثها في إحدى الصالات سنة 2007. وتبقى أغلب هذه الحالات فردية ومعزولة ومحدودة الانتشار مع تنامي مد إثني شعبوي وتلقائي غير منظم أمام حالة تعدد شديد ومتناقض في الوسط الجمعوي الأمازيغي، إذ تتجاوز الجمعيات الأمازيغية في المغرب 700 جمعية يشتغل أغلبها في المجال الثقافي العام، مع وجود مؤسسات أخرى ذات طابع حقوقي مثل: «الشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة» و«المرصد الأمازيغي للحقوق والحريات» و«العصبة الأمازيغية لحقوق الإنسان». وعرف المغرب تأسيس تنظيم سياسي يدعى «الحزب الديمقراطي الأمازيغي» لم يرخص له، إضافة إلى وجود تنظيم دولي فيه مغاربة وجزائريون يسمى «الكونغرس الأمازيغي العالمي». وغالبية هذه الجمعيات الحقوقية ذات توجه علماني يلح في مذكراته المطلبية على مراجعة التشريعات الوطنية لملاءمتها مع التشريعات الدولية لحقوق الإنسان، وإزالة كل النصوص المكرسة للتمييز ضد الأمازيغية في التشريع المغربي، وإقرار دستور ديمقراطي يفصل السلطة والدين عن السياسة والدولة، بل ذهب البعض إلى الحديث عن جوهر أمازيغي للثقافة المغربية، وأن بقية الأبعاد مجرد عناصر وافدة. وجاء إحداث مؤسسة رسمية تعنى بالشأن الأمازيغي، وهي «المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية» لاختيار نهج معتدل ومتناغم مع الأبعاد المتعددة للهوية المغربية، وهي البعد الأمازيغي والبعد الإسلامي والبعد العربي والبعد الإفريقي والبعد العالمي. يضاف إلى هذا أن تجربة تدريس الأمازيغية في بعض المؤسسات التعليمية أثبتت أن الأمازيغية ليست لغة واحدة بل لغات متعددة، لكن الخطاب الإيديولوجي الأمازيغي مافتئ يتحدث عن لغة واحدة موحدة، وهي في الحقيقة «لغة افتراضية»، بتعبير المفكر اللساني المغربي محمد الأوراغي. وقد اختير التعليم والإعلام كمدخلين أساسيين لإدماج الأمازيغية في منظومة الدولة في إطار تنشئة اجتماعية موحدة ومتناسقة. ويبقى الازدواج اللغوي أمرا ملحوظا في مغرب اليوم، إذ بدأ النقاش يشتد حول توحيد اللغة، واعتماد اللغة العربية -بشكل عملي وواقعي وملموس- لغة العلم والمعرفة والتعليم والإدارة والبحث أمام الانحسار الشديد الذي تعاني منه اللغة الفرنسية في المجال التداولي العالمي، الأمر الذي تعترف به المؤسسات الفرنكوفونية العالمية؛ فقد تقلصت رقعة انتشار الفرنسية وقل الناطقون بها وكذا مستخدموها في العالم، خصوصا في البحث العلمي والتواصل التجاري، وبدأت تفقد مواقع كثيرة أمام الإنجليزية والصينية والإسبانية والعربية والهندية، فقوة اللغة في الثقافة والعلوم التي تحملها وفي قوة مجتمعها. وقد انتهى الزمن الذي تأتي فيه اللغة على دبابة مستعمر لتفرض نفسها على المستضعفين بقوة الحديد والنار، فالمتشبثون بالفرنسية اليوم في المغرب ليسوا إلا حاملي فيروس عبودية واستتباع أو حافظي مصالحهم المرتبطة باللغة الفرنسية، وهؤلاء يضعون مصلحتهم الذاتية هي العليا. كما أن الفرنسية في المغرب اليوم هي حاجز أمام العالمية، بتعبير المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز، إذ يرى أن مشكلة المغاربة لم تكن مع اللغة الفرنسية، «ولكن مع الفرنكفونية كإيديولوجيا وكأداة من أدوات تجديد السيطرة الثقافية واللغوية الاستعمارية على مجتمعاتنا». وتبقى اللغة العربية في وضعية غير مريحة بسبب التهميش والمهانة والنظرة الدونية، خصوصا من لوبي سياسي واقتصادي يحتل مواقع القرار في العديد من المؤسسات الرسمية؛ مما يضع وزارة الثقافة الجديدة أمام مسؤوليات جسام في هذا الخضم. رحيل مفكر استثنائي هز خبر موت محمد عابد الجابري الرفاق والأهل والأحباب والأصدقاء وكل التيارات الفكرية والسياسية والشبابية في المغرب في ذلك الصباح من يوم الاثنين 03 ماي 2010. فتحول بيته المتواضع في أحد أحياء الدارالبيضاء إلى محج للجميع.. رحل وهو الذي أصر على كتابة مقاله «حديث الأربعاء» الذي نشر في موقعه الإلكتروني، ثم جلس في لقاء حميمي مع أقربائه إلى وقت متأخر من الليل يناقش قضايا الفكر والتجديد قبل أن يخلد إلى نوم دائم دون سابق إعلان إثر نوبة قلبية، وهذا ما يستدعي استحضار روحه وإبداعه لمفهوم الكتلة التاريخية في السياسة الثقافية العمومية الجديدة لوزارة الثقافة ولطالما تم تهميشه. مات الجابري، الذي كان معلمة مغربية وعربية وإسلامية، وكان نموذج المفكرين من الجيل الجديد الذين أحيوا عهد الموسوعيين، وهم القادرون على الجمع في عملهم العلمي بين تخصصات مختلفة. وكان الجابري يعمل على حدود العلوم، ويستثمر جزءا من أرض العلوم المجاورة، ويضع قدمين على أكثر من تخصص. وكان يشتغل بناء على القاعدة الطبيعية التي تعتبر منجم الذهب موجودا دائما بقرب المناجم الأخرى. وعرف الجابري بثقافته الموسوعية، فهو لم يكن يؤمن بالاحتماء تحت سقوف التخصصات، ولذلك كانت شهرته خارج تخصصه. وعليه، كان الجابري يحاضر في الرياضيات ونظرية الطبيعة والميتودولوجيا والجغرافيا الطبيعية والمنطق والميتافيزيقيا والفلسفة الأخلاقية واللاهوت الطبيعي والدراسات الإسلامية وعلوم التربية. وأظهر، رحمه الله، قدرة على استثمار تخصصات مختلفة لتشييد بناء فكري ونقدي ومعرفي متكامل. كان منغمسا في العمل السياسي إلى حدود الثمانينيات ليطلق السياسة بما هي شأن حزبي دون أن يودعها بما هي شأن عام. وظل يدعو إلى الكتلة التاريخية، وهي تكتل قوى الأمة المؤمنة بالمشروع الوحدوي العربي الإسلامي. وبقي الجابري ضمن الأموات الذين كان لهم بعد تاريخي كبير، والتزام لصالح الديمقراطية والتقدم الاجتماعي لبلده حسب نعي الجريدة الإسبانية (إيل باييس 9 ماي 2010) للجابري؛ ونعاه المفكر المصري حسن حنفي في مقالة بعنوان «صديق العمر»، واعتبر مشروعه «نقد العقل العربي» من أهم أربعة مشاريع فكرية في العالم العربي اليوم، إضافة إلى مشروع حسن حنفي «التراث والتجديد»، و«التراث والثورة» للطيب تيزيني، و«نقد العقل الإسلامي» لمحمد أركون؛ فالجابري، في نظر حنفي، أصبح يمثل الفكر العربي المعاصر، بجمعه في ثلاثيته في نقد العقل العربي بين كانط في «نقد العقل الخالص» وهيجل في «ظاهريات الروح»؛ أي العقل النقدي والعقل التاريخي. وكتب عن رحيل الجابري المفكر السوري الطيب تيزيني مقالة بعنوان «صفحة هامة طويت»، أكد فيها أن رحيل الجابري يشكل له صدمة كبيرة وعميقة رغم التباعد الذي حصل بينهما منذ أن تعارفا في تونس لمدة ثلاث ساعات. وكان الجابري حافزا للطيب تيزيني على التوغل في القضايا التي طرحها، ويعتبر نفسه طرفا في طرحها، لأن الجابري كان يتوجه إليه بالنقد في أبحاث كثيرة كتبها. كما نشرت صحيفة «الخليج» الإماراتية ملفا وفاء لمسار الفقيد، أوردت فيه شهادات لمثقفين عرب عن وفاة الجابري؛ إذ وصفه المفكر المصري اللامع المستشار طارق البشري بكونه «من كبار المفكرين الذي تركوا فكرا مدروسا وممنهجا، له وجهات نظر ذات شأن»، وبات من الضروري، في نظر المستشار البشري، «التواصل مع هذا الفكر بإقامة ندوات لدراسته، وإعادة إصدار كتبه ومؤلفاته، وأن تحظى باهتمام من المفكرين والكتاب في الوطن العربي»؛ ووصف محمد سلماوي، الأمين العام لاتحاد الكتاب العرب، رحيل الجابري بالخسارة الكبيرة للكتاب والمفكرين العرب؛ ويرى الروائي المصري يوسف العقيد أن اسم الجابري ارتبط بطرح أسئلة العصر على التراث، فقد طرح أسئلتنا جميعا كما أحيا قيمة العقل في التفكير العربي؛ أما المفكر الموريتاني ولد باه فير« في الجابري نموذجا واضح التفكير وواسع الاطلاع وصاحب عقل منطقي ضارب في العمق والرجاحة؛ كما خصصت جريدة «الصباح» التونسية ملفا لرحيل الجابري، وهو الذي كان يكتب فيها مقالا أسبوعيا يحلل فيه جملة من القضايا والمواضيع الإسلامية؛ وأشارت الجريدة في تقديم الملف إلى أن رحيل الجابري جاء «بعد نحو نصف قرن من الإنتاج الفكري والثقافي، من دون كلل أو ملل، فكان مع كل إنتاج يضئ شمعة جديدة في ظلمة الفكر العربي المعاصر».