تمر استحقاقات 25 نونبر 2011 ويتعرف المغاربة على الفائزين، وينتقل الفرقاء إلى مرحلة أخرى يتم فيها إعمال الدستور بمقتضياته الجديدة، بما يتطلبه ذلك من حكمة وأناة وترو، حتى نؤمّن للبلاد انتقالا سلسا بشروط تكرس الاستمرار وتحفظ الاستقرار. إن مرحلة الانتقال الديمقراطي التي يعيشها المغرب بعد إقرار دستور فاتح يوليوز 2011، وما يميزها من حراك وتدافع، لا بد من قراءتها في سياق ما عاشته البلاد من تحولات عبر تاريخها، تميزت، على الخصوص، بالصراع المحتدم بين نظام الحكم والمعارضة التي كانت قد عبرت فصائل منها، في مرحلة معينة، عن مطالبها الصريحة بإسقاط النظام. ولا تتعارض الرغبة في تأمين هذا الانتقال مع ما يعتمل في الشارع من حراك، بعد التراكمات التي حققها المغرب في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، والصحوة المتميزة التي تم تسجيلها مع بداية العهد الجديد بما أقدم عليه العاهل المغربي الملك محمد السادس من إصلاحات تمهد لتنظيم علاقات الحاكم بالمحكومين، وذلك بالمضي قدما في ترسيخ نموذج ديمقراطي حقيقي، يقوم على أساس الإنصاف والعدالة التي تؤمن مبدأ المشاركة للجميع وتضمن تكافؤ الفرص وإقرار مبدأ المساءلة وتكريس الحقوق الأساسية للمواطنين دون تمييز. وبذلك تكون البلاد قد قطعت أشواطا مهمة في إرساء دعائم المجتمع الديمقراطي الحداثي بفضل تضحيات أجيال من أبنائها، مما مكنها من التطلع إلى المستقبل برؤية إصلاحية جسورة، تقوم على التوافق والانسجام بين نظام الحكم وشركائه السياسيين والاجتماعيين، وتختفي معها مظاهر الاستفراد بالحكم، رويدا رويدا، لتتحول إلى أنموذج متجدد في الحكامة، تجسدت الكثير من معالمه الأساسية في الوثيقة الدستورية الجديدة. لقد مكنت تضحيات القيادة والشعب قبل أكثر من نصف قرن من التأسيس لنموذج مغربي في الحكامة يقوم على تكريس الحق في الحرية، فتعززت القوانين المؤطرة للنظام التعددي، وترسخت نظرة وليدة لتقاسم الحكم، مثلت، حينئذ، صمام أمان للمؤسسة الملكية ورفعت الحرج عن معارضيها السياسيين والاجتماعيين الذين دافعوا عن خيار الإصلاح من داخل المؤسسات رغم الخسائر المتوقعة من ذلك. وإذا كان هؤلاء قد رجحوا كفة المصلحة الوطنية، على المصالح الضيقة للأفراد والتنظيمات، فإن النَّفَسَ الثوري الذي يحرك شباب 20 فبراير اليوم سيكون، حتما، عنصر إلهام يدفع بمختلف الفاعلين السياسيين إلى العمل على تأصيل النموذج الديمقراطي المغربي التواق إلى تحقيق الكمال التدريجي الذي يستمد كينونته من انتمائه إلى بلد أصيل متنوع في إمكانياته وغني بثرواته البشرية والمادية بالقياس إلى ما حققته التجارب الإنسانية الأصيلة من نجاحات في هذا المجال. ولذلك، فإنه لا يجب أن يسقط شبابنا في فخ الشرعية الثورية التي ورثها البعض عن مرحلة اتفق المغاربة، خلال تجربة الإنصاف والمصالحة، على إسقاط شعاراتها ونبذ سيئاتها واستثمار حسناتها، بل على الجميع مساعدة الشباب على التخلص من نزعة الاستبداد التي بدأت تسيطر على البعض منهم جراء ما يصفونه بحالة الصمت واللامبالاة التي تطبع، في نظرهم، تعامل بعض المسؤولين مع مطالبهم. وهذه الرسالة، وإن كانت قد صيغت، على الأرجح، من محبرة الفصيل الإسلامي المعروف بانضباطه لفكر التقية، فإنها، من دون شك، ستغلب عليها نبرة العنف المرفوضة، التي قد تؤدي -لا قدر الله- إلى الاصطدام. لقد كان من الممكن حسم الصراع بين نظام الحكم على عهد الملك الراحل الحسن الثاني ومعارضيه بالاحتكام إلى الديمقراطية، والمضي قدما في تكريس خيار التعددية السياسية منذ الثلاثينيات ومكتسبات أول دستور تم إقراره في البلاد في عام 1962، لولا التجاذبات والصراعات التي ميزت تلك المرحلة وعمقت القطيعة، فضاعت على المغرب عقود في مسار بنائها وتنميتها. ولذلك ما تزال فئات واسعة من الشعب تدافع عن الشرعية وعن مسار بناء المؤسسات وتعتبر استقرار البلاد خطا أحمر لا يجب تجاوزه، مع الاهتمام أكثر بالتحديات الحقيقية التي تواجه البلاد ومدى قدرة النظام على التكيف معها، وفي طليعتها تحديات العولمة واختفاء الحدود وتراجع الإيديولوجيات واتساع مجالات الحقوق والحريات والطفرة المبهرة لتقنيات الإعلام والاتصال. ولا بد أن يكون المغاربة قد اعترفوا اليوم بفضل الشباب في تحريك بعض المياه الراكدة، بنفس القدر الذي يذكرون فيه للأحزاب الديمقراطية فضلها في المساهمة في نقل البلاد من مربع إلى مربع آخر، من خلال مشاركتها الذكية في التأسيس لبناء المجتمع الديمقراطي، منذ المراجعة الدستورية لعام 1996 وما بعدها، مما أسهم في تعزيز مناعة البلاد ومكنها من مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية. وإذا كانت الظروف الموضوعية لتحقيق انتقال ديمقراطي آمن قد توفرت بإرادة نظام الحكم وشركائه الديمقراطيين، فإن المجهود الكبير الذي تم بذله، بعد ذلك، لترسيخ قيم المجتمع المغربي التواق إلى مزيد من الحرية والديمقراطية وتثمين الموارد وصيانة رموز الهوية المشتركة قد حقق نتائج متميزة استأثرت بالاهتمام. ذلك أن صيغة الاعتراف بالمكون الأمازيغي كجزء أساسي في الهوية المغربية، كما قدمها خطاب أجدير في 17 أكتوبر 2001، لا تعدو كونها انطلاقة أولى سمحت باستثمار طاقة خلاقة لفئات واسعة من الشعب، مكنها هذا الفعل من المساهمة البناءة في التأسيس للانتقال الديمقراطي الحقيقي الذي نعيش فصوله هذه الأيام. وإذا كان المغرب قد اعترف لمواطنيه بكافة الحقوق التي تكفلها الأعراف والمواثيق الدولية مع تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان عام 1990 (المجلس الوطني لحقوق الإنسان فيما بعد) وما تلا ذلك من إجراءات مُؤسِّسَة -منها على الخصوص إحداث ديوان المظالم في 9 دجنبر 2001 (مؤسسة الوسيط لاحقا) وتشكيل الهيئة العليا للسمعي البصري في 31 غشت 2002- فإن ذلك سيُمهد لمشروع خلاق ومندمج سيُتَوج باعتماد مدونة الأسرة في 10 أكتوبر 2003 وتثمين عمل هيئة الإنصاف والمصالحة الذي تم إنجازه في سنة 2005 وتثُّمل تحليلات وخُلاصات تقرير الخمسينية بعد تقديمه في يناير 2006. وبفضل هذه التراكمات المهمة، سيعمل المغرب على تحصين المكتسبات التي تحققت في مسار تقوية جبهته الداخلية وتكريس الإجماع الوطني حول القضايا الأساسية للأمة، وفي طليعتها قضية الصحراء، بتقديمه مبادرة غير مسبوقة لحل النزاع الذي دام زُهاء أربعة عقود، تقوم على تمكين سكان الإقليم المتنازع عليه من حكم ذاتي، يتم الاتفاق على تفاصيله بين الأطراف برعاية من الأممالمتحدة. وما زلنا، بعد استحقاقات 25 نونبر 2011، سنتابع عن كثب النقاشات حول الورش الدستوري الجديد وحدود الإصلاحات التي سيكرسها بما يهم نُظم الحكم وأدواته المختلفة، ومنها تمكين مؤسسة رئاسة الحكومة ومنح مجلس النواب السلطة الحصرية للتشريع وتعزيز سلطات الرقابة المالية والإدارية وإقرار مشروع الجهوية المتقدمة وتمتيع رؤساء الجهات بصلاحيات تنفيذية تتراجع أمامها سلطات العمال والولاة، حتى نصطدم بواقع اقتصادي صعب يرهن مستقبل بعض مناطق البلاد ويجعلها عاجزة عن مواكبة متطلبات التنمية المحلية. وأمام ارتفاع معدلات البطالة وانتشار الأمية وتراجع فرص التشغيل لا يمكن أن تتهيأ الظروف المُثلى للإصلاح دون تكاثف جهود الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين لتمكين البلاد من اجتياز هذه المرحلة والعبور بأمان إلى مرحلة الاستقرار والسلم الاجتماعي. وستقع على عاتق الحكومة المقبلة مسؤولية تدبير التوازنات والتحكم في وتيرة الاحتجاجات، التي يُتوقع أن تتصاعد وتيرتها ويتسع مداها بأسرع مما كان منتظرا، إذا فشل أصحاب القرار في تدبير المرحلة والتعاطي مع تحدياتها بكل صبر وتروٍّ وأناة، خلافا لما كان عليه الأمر في آسفي وقبل ذلك في العرائش والحسيمة وفي مدن أخرى. وما يشغل البال أكثر هو إمكانية عودة نفس الوجوه الموسومة بسوء السلوك الانتخابي والسياسي لتحتل مواقع في البرلمان، على حساب تاريخ وأمجاد نخبة مهمة من المغاربة والمغربيات أسهموا بتفان ونكران ذات في حماية البلاد وتأمين استقرارها، نأمل أن يتمكن هذا الجيل الجديد من الإصلاحات من نفخ الروح والحماس في شباب المغرب ويشجعهم على المساهمة الإيجابية في بناء المجتمع وتطويره. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار يتعلق على الخصوص بالإرادة التي يمكن أن تتوفر في الفاعلين السياسيين الجدد (...) وبقدرتهم على تصعيد نُخب من طراز رفيع قادر على المساهمة في رفع التحديات المطروحة على البلاد في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية وتراجع اقتصاديات بعض الدول وتأثير ذلك على دخل العمالة المغربية المهاجرة، التي باتت تشكل موردا أساسيا للعملة الصعبة. وإذا سارت الأمور في غير الاتجاه المراد لها، فإنه يُرجّح أن تنتقل حركة الشارع إلى المدارس والمعاهد والجامعات والأحياء والإقامات الجامعية التي ستنتقل من وضعية الحياد إلى وضعية أخرى تترجم ما يعتمل داخل أسوارها من نقاشات تتماهى، في الكثير من الأحيان، مع ما نراه في بعض شوارع المدن المغربية في الآونة الأخيرة من احتجاجات، تغذيها ممارسات خاطئة تشجع أصحاب القرار على رفض معالجة ملفات تشغيل أفراد محسوبين على تيار معين، وهو مثال فقط على نوعية الملفات التي يمكن أن تؤجج الاحتقان وتدفع إلى العنف. ولذلك فإن انخراط جميع الفُرقاء السياسيين والاجتماعيين في معمعة الإصلاح يجب أن تبدأ من هذه المرحلة التي تعقب انتخابات 25 نونبر 2011 بما يتطلبه ذلك من جدية وحزم، باعتبارها محطة فارقة سيكون للأحزاب السياسية دور حاسم في توجيهها الوجهة الصحيحة لكسب رهان الإصلاح إذا توافرت الإرادة المطلوبة لذلك. وبالمقابل، سيكون من المفيد أن يهتم شباب 20 فبراير بترتيب البيت الداخلي للحركة وإيجاد الخيط الناظم لخطابها وضبط الإيقاع داخلها ورسم حدود التوافق بين مكوناتها والتفكير في إبداع أساليب متجددة للتعبير عن القناعات مع الحرص على احترام الاختلاف، ذلك أن المطالبة بالتغيير والإصلاح ومكافحة الفساد وإقرار الحقوق وترسيخ قيم العدل والإنصاف لن تستقيم، في رأي الكثيرين، مع الرغبة في إقصاء المؤسسات والتمكين لحالة قد تُنذر للفوضى ليس إلا. محمد سالم الشرقاوي - إعلامي مغربي