تتأطر كتابات الشاعر محمد العناز ضمن التجربة الشعرية الجديدة بالمغرب، بوصفه واحدا من الأسماء الشابة التي تكتب قصائدها بحس نقدي عميق، يترجم بلاغة الحلم بتغير العالم. ولعل قصيدة «خطوط الفراشات» نموذج لهذه البلاغة الحالمة التي تشكل سمة تكاد تهيمن على الإبداع الشعري الحديث. العنوان يتكون من جملة إسمية تحيل على الجمود والثبات. كلمة «خطوط» تطرح إشكالية دلالية: هل يتعلق الأمر بالخطوط المرسومة على الفراشات أم الخطوط الوهمية التي تتركها بعد أن تمر؟ وبناء على الافتراض الأول، هل خطوط الفراشات كلها متشابهة؟ إن العنوان الجيد «يجب أن يشوش على الأفكار، لا أن يحولها إلى قوالب مسكوكة»، فالشاعر بهذا العنوان استطاع أن يمارس تشويشا على القارئ حين عمد إلى تشبيه خطوط الفراشات بالتجاعيد: « لا أرى سببا لدمعة بالغة الملوحة ولا تجاعيد تشبه خطوط الفراشات» الفراشة، هذا الكائن الصغير والهش، ينتبه إليه محمد العناز، بل يؤثث من خصائصه الدقيقة عالمه الشعري؛ فيصور حالة الإنسان وما قد يعتريه من علامات الضيق والمعاناة. الفراشة ترمز إلى «ملذات الحياة الفانية وإلى الخفة. من مرت أمامه فراشة وردية، فإنه سيسعد طويلا؛ وإذا دخلت الفراشة منزلا يكون ذلك إيذانا بحدث منتظر على وشك الوقوع» بناء على هذا البعد الرمزي، فإن دلالة الفراشة في هذا النص تستمد شعرية توظيفها من كونها تشير إلى الطابع الزائل لمظاهر الحياة اليومية، وإلى عناد الزمن وخيانته. هكذا يمكن اعتبار القصيدة بيانا احتجاجيا ضد واقع مر، استحال معه الإنسان شيئا، بل بضاعة تخضع قيمتها لتغير مؤشرات العرض والطلب. إنها صرخة شاعر ودعوة إلى تمثل الإنسانية التي افتقدناها في عالم الماديات واندحار القيم. لعل المتأمل في «خطوط الفراشات»، يذهب إلى اعتقاد مفاده أن صاحبها في عقده السابع؛ مما يعطيه صبغة التجربة والحكمة، وهي الصورة المرسخة في المخيال الجمعي في مجتمعاتنا العربية الإفريقية، على الأقل. أما حين نعلم أن الشاعر لم يطفئ بعد شمعته الرابعة والعشرين، فإننا نفهم أن العالم الذي افتقده ما هو إلا مسرح الطفولة. القصيدة إذن تتأرجح بين عالمين متجاورين ومتصارعين: الواقع الحالي بكل تمظهراته الشرسة وإكراهاته اليومية، والعالم الداخلي الخاص بالشاعر. إن مملكة الشاعر يحكمها طفل بعمره، طفل يرفض أن يوقع على سجل الجرائم الأولى، ويبغض عصر الإسمنت وبشاعة الأسلاك المعدنية؛ مملكة مطلع نشيدها :» كي تكون رئيسا إبدأ بحب الأطفال»، عالم الشاعر إذن ذكريات تمتزج ببراءة طفولتنا وهي تبحث عبثا عن وردة وراء ثخونة الأسوار. إنها لوحة من الذاكرة، فأن « نكتب ذاكرتنا، معناه أن تخلى عن وهم محاكاة الواقع ونحرر اللغة من ترجمة المرئي، ونرتاد فوضى التخييل المنفتح على أكثر من سجل والمكتسب شرعيته مما يرتديه من غلائل إستيتيقية». الرياح المارقة التي تهب على مرتيل» قادمة من فصول الوهج»، من حدائق الحلم والذكرى، ببوح العصافير وألوان الفراشات؛ الريح نفس الآلهة والروح والطاقة التي تحرك العالم. « الرياح الخفيفة» منعشة، تجئ بردا وسلاما على الشاعر وعلى مدينة مرتيل المتوسطية..رياح مرتيل عنوان لتوهج الذاكرة في عبورها نحو الحلم ب«العشق المستحيل»: «الرياح الخفيفة القادمة من فصول الوهج تمرق بالقرب من ضفة مرتيل تحمل أوراقا هشة كالخريف» هذه الطاقة الشاعرة التي تدفع الخريف إلى حمل حقائب الرحيل، هي الأمل في تغيير هذا العالم. إنه الحلم، وهو سمة طاغية على القصيدة. وفي هذا الصدد، تقول خالدة سعيد: « إن اعتماد الشعر الجديد على الرؤيا والحلم هو بمثابة احتجاج على واقع بات واقع قهر... فالحلم هو الضمان الأصلي ضد عمليات التغريب المتراكبة التي يمارسها المجتمع بفئاته المتسلطة». القهر والتسلط سبب رئيسي للمعاناة في القصيدة كما في الواقع المعيش؛ مما يجعل الإنسان بلا أمل «الضوء» في تحقيق أحلامه الصغيرة؛ حتى الإبداع كمتنفس وحيد لذات الشاعر، يجد من يعاكسه ويقمعه: « النافذة الوحيدة أغلقها سماسرة الضوء...» ينظر الشاعر حوله، فلا يرى سوى السماسرة وصور كاذبة عن الحب والجمال، ولا يرى إلا أناسا يتحولون على شاكلة شخصيات مسرحية « واحد القرن» لأووجين يونسكو. إلا أن الشاعر لا يستسلم لإغراءات هذه الحياة الماكرة، يفضل ألا يسقط في متاهة مدام بوفاري الشخصية الروائية أو فخ كوستاف فلوبير نفسه: فقد توهمك بعض واجهات الحياة بالوقوف أمام السعادة التي تنشدها في أحلامك، فتقبل عليها بلا هوادة، قبل أن تصاب بالإحباط حين تكتشف أن ما اطمأننت إليه لم يكن سوى ضربا من السراب. تتوالى عليك النكسات، إلى أن تطرح السؤال الوجودي القاتل: هل الحياة تستحق أن تعاش؟ ألم يكن جواب إيما بوفاري هو الانتحار؟ هل كانت تريد بهذا الاختيار وضع حد لاضطهادها في عالم لا يعترف بالحلم. فما هو جواب الشاعر محمد العناز على السؤال الوجودي؟ «لا أرى سببا لدمعة بالغة الملوحة ولا تجاعيد تشبه خطوط الفراشات».