الأحد المقبل، سيكون التونسيون على موعد مع التاريخ! بعد خمسة وخمسين عاما من الاستقلال ورغم كل ما عرف عن تونس من ارتفاع مستوى التعليم ووجود نخبة محترمة مع انفتاح اجتماعي ووضع متميز للمرأة، فإنها المرة الأولى التي يذهب فيها التونسي إلى انتخابات تعددية لا تقصي أحدا، وتشرف عليها لجنة مستقلة بعيدا عن وزارة الداخلية، وبحضور مراقبين دوليين ومحليين ذوي مصداقية. هذا في حد ذاته، وقبل أي حديث آخر، مكسب عظيم ما كان ليتحقق لولا ثورة شعب تحمل، لعقود، من القمع والكذب والرداءة والفساد الشيء الكثير. وكما كانت تونس سباقة في موجة الثورات العربية من أجل الحرية والكرامة التي شهدناها ونشهدها وسنشهدها، فإنها اليوم، من بين كل الدول العربية التي أطاحت بقياداتها المترهلة، هي السباقة إلى وضع اللبنة الأولى على درب صياغة مستقبل جديد يفترض أن يقطع مع كل مآسي الماضي. لقد أضاعت تونس لسنوات طويلة فرصا تاريخية عديدة كان بإمكانها أن تتحول فيها إلى نموذج، ليس فقط في منطقة المغرب العربي وإنما في البلاد العربية كلها. لم يكن ينقصها شيء: لا وجود طبقة سياسية ناضجة ولا شباب تواق إلى التغيير ولا طبقة وسطى قوية ومستنيرة ولا قوى نقابية ومدنية نشطة؛ لكن عقلية الحزب الواحد، التي سادت زمن الرئيس المؤسس الحبيب بورقيبة وزاد في تعفينها من جاء من بعده، قضت على كل أمل في أن تكون تونس شيئا مختلفا في الحياة السياسية العربية. هاهو التاريخ يحاول أن يضرب موعدا جديدا مع تونس على أمل ألا تخذله فيه. تيارات سياسية عديدة تتقدم إلى انتخابات المجلس التأسيسي الأحد المقبل لتوكل إلى من سيفوز منها مهمة لم تتح من قبل إلا بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1956. هؤلاء سيحددون شكل نظام الحكم في البلاد بسن دستور جديد لها مع تحديد تواريخ وقوانين إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة بعد الانتهاء من مرحلة انتقالية مؤقتة لم تحدد بعد معالمها بدقة. القوائم المشاركة في هذه الانتخابات كثيرة جدا، وأغلبها غير معروف، وهذا طبيعي جدا في مرحلة «الازدحام» الحالية، ولكن ما يميز أشهرها انقسامُه بين تيار إسلامي عريض، سواء من حركة «النهضة» أو غيرها، وتيار آخر بتلويناته الواسعة من ليبرالي ويساري وقومي مع عدد لا بأس به من الشخصيات المستقلة البعيدة عن التصنيف الحزبي أو الإيديولوجي الفاقع. هنا سيكون الامتحان الكبير! كيف سيحسم جمهور الناخبين في تونس، وعدده سبعة ملايين تقريبا، هذا التنافس بين كل هؤلاء. لأول مرة سنعرف بالضبط من اختاره التونسيون، ليس فقط ليحكمهم لفترة معينة وإنما أيضا ليرسم لهم ملامح مستقبلهم. المسؤولية كبيرة بلا شك. وبعيدا عن أية وصاية على الناس أو وَهم ادعاء معرفة أفضل من يمكن أن يمثلهم، فالمؤمل هو أن ينعكس مزاج التونسي المعتدل والمنفتح والمتسامح على اختياره لممثليه في المجلس التأسيسي المنتظر. ولنقل من الآن وبكل صراحة، إنه حتى لو لم يحصل ذلك فإن إرادة الشعب الحرة يجب أن تحترم بالكامل، فالشعب هو من سيجني نتيجة اختياراته في كل الأحوال. أمام تونس فرصة قد لا تتكرر في أن يثبت شعبها أنه لن يسمح بأي استبداد مقبل، سواء تدثر بعباءة الإسلامي أو ببذلة الحداثي أو بأي شيء آخر. تونس الرائعة والجميلة قادرة على ضمهم جميعا إلى صدرها شرط ألا ّ يذهب إلى ظن أي منهم أنه محتكر الصواب بل الحقيقة وأن شؤون البلاد لن تستقيم إلا إذا صال فيها وجال منفردا، أو أن يعتقد أن الديمقراطية لا تكون فاتنة إلا إذا أتت به هو تحديدا إلى الحكم وإلا فإنها محط سخطه أو تبرّمه. تونس المستقبل التي يجري التأسيس لها ستكون أروع إذا أفلحت في جعل حياتنا السياسية المقبلة متعددة الألوان، واسعة الصدر والأفق، محترمة للاختلافات، حياة قادرة على أن تقول للعالم أجمع إن تونس، التي أيقظت عرب اليوم من سباتهم الذليل تحت حكم الدكتاتوريات، عازمة على حياة ديمقراطية تنافسية جميلة،.. الاستبداد وقمع الحريات والتعصب والفساد وانتهاك القانون والتعذيب وتهميش أوسع فئات الشعب، كلها صفحات ولّت إلى غير رجعة. نعم، تونس تستحق ذلك وقادرة عليه.