صحيفة «الأندبندنت» البريطانية لخصت الوضع الراهن في «ليبيا الجديدة» بنشر رسم كاريكاتيري، في عددها الصادر الجمعة، يتضمن ثلاث صور للعقيد الليبي معمر القذافي وهو ينهال، ضربا وركلا، على شخص مكبل اليدين، ويصرخ به مطالبا إياه بالاعتراف عن مكان «المجرم القاتل محترف التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان ابن الحرام المدعو معمر القذافي». اللافت في الشخصيات الثلاث للعقيد القذافي في الرسم المذكور أن إحداها بملابس الجنرال الذي يلف ذراعه بعلم «ليبيا الجديدة»، والثانية بملابس الميليشيا ويلف وسطه بالعلم نفسه، أما الثالثة فصاحبها يرتدي ملابس مدنية. وقال العنوان الرئيسي للكاريكاتير «قابل الرئيس الجديد لليبيا». لا نعتقد أن رسام الكاريكاتير هذا كان من رجال القذافي، ونجزم بأن الصحيفة لم تتلق فلسا واحدا من نظامه، كما أن أنصار النظام الليبي الجديد لم يعثروا في ملفات وأوراق المخابرات الليبية بعد اقتحام مدينة طرابلس على وثائق تدين رئيس تحريرها بتلقي «إكرامية» شهرية من حاكم ليبيا وديكتاتورها السابق، وهي التهم التي تفنن حكام ليبيا الجدد في إطلاقها على كل من اختلف معهم في الرأي حول بعض الممارسات والتدخلات الأجنبية، ولم يختلف معهم على دموية النظام السابق وديكتاتوريته. الثورة انطلقت في ليبيا، وحظيت بدعم عربي وعالمي لأنها هدفت إلى التخلص من نظام دموي، مارس القمع والتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان الليبي وحوّل البلاد إلى مزرعة له ولأبنائه والبطانة الصغيرة المحيطة به. ولكن عندما يمارس الحكام الجدد الممارسات نفسها، وربما بطرق أبشع، فإن من حقنا أن نرفع أصواتنا معارضين ومعترضين، نحن الذين عارضنا نظام القذافي عندما كان معظم من انقلبوا عليه وانحازوا إلى صفوف الثوار وتولوا المناصب القيادية، يخدمونه ويبجلونه ويحملون المباخر له ويهتفون خلفه، بل ويبررون قمعه وإرهابه. المنظمات العالمية الغربية المهتمة بحقوق الإنسان، مثل منظمة العفو الدولية (بريطانية) وهيومان رايتس ووتش (أمريكية)، نشرت تقارير «موثقة» حول انتهاك قوات تابعة للحكم الليبي الجديد لحقوق الإنسان ضد أنصار النظام السابق، بما في ذلك قتلهم بعد تعذيبهم، وأظهرت صورا لهؤلاء وقد قتلوا برصاصة في الرأس وهم مقيدو اليدين خلف ظهورهم؛ ففي تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية في الأول من أكتوبر الجاري، جرى توثيق اعتقالات تعسفية لأفراد وأسر وأطفال، شملت المئات من الأشخاص، سواء من منازلهم أو عند نقاط التفتيش أو من الشوارع، وتعرضوا للضرب واللكم والإهانات وهم معصوبو الأعين ومقيدو الأيدي، وكذلك إطلاق النار على سيقانهم. وأفاد الكثيرون بأن أموالهم قد سرقت وممتلكاتهم قد دمرت. وتعرض أفارقة وليبيون سود للاعتقال التعسفي بسبب لون بشرتهم، ومثل هؤلاء نصف المعتقلين، وكذلك للضرب بالعصي وأعقاب البنادق؛ واعترف الحراس بذلك، وأرفقت المنظمة صورا توضح آثار التعذيب. أما منظمة «هيومان رايتس ووتش» فقد تحدثت عن وقوع عشرات القتلى والجرحى من المدنيين بسبب غارات طائرات حلف الناتو، معظمهم من المدنيين. المراسلون الأجانب، الذين يغطون الهجوم على مدينتي سرت وبني وليد، آخر معاقل الزعيم الليبي المخلوع، يؤكدون أن المدينتين قد دمرتا بالكامل بعد حصارهما وقطع إمدادات الماء والكهرباء عنهما لعدة أسابيع. وتحدثت تقارير منظمة الصليب الأحمر الدولي عن أوضاع كارثية داخل المستشفيات في المدينتين، حيث الجرحى يموتون لعدم وجود أبسط أنواع الأدوية والعناية الطبية اللازمة بفعل الحصار. لا نتردد لحظة في إدانة النظام السابق ودمويته وممارسته كل أنواع القمع والتعذيب ضد خصومه، بل وحتى المقابر الجماعية، ولكن من المفترض أن تكون ممارسة معارضيه الذين أطاحوا بحكمه نقيض ذلك تماما، من حيث الابتعاد عن النزعات الثأرية والروح الانتقامية، والتحلي بأخلاق الإسلام في إكرام الأسرى، والاحتكام إلى أحكام القانون والعدالة. تدمير المنازل ونهب محتوياتها وترويع المدنيين الفارين من المدينتين وإلحاق كل أنواع الإهانة بهم، لأنهم ينتمون إلى قبيلة العقيد القذافي أو قبائل متحالفة معه أو حكمت عليهم الأقدار والظروف بالعيش في المدينتين المحاصرتين، هذه الأمور مدانة بأشد الكلمات وأقواها، ولا تبشر بالخير لليبيا الجديدة التي يتطلع إليها الليبيون والعالم بأسره، ليبيا النموذج في العدالة وحقوق الإنسان والتحول الديمقراطي والقضاء المستقل والشفافية المطلقة. لن نقع في خطيئة التعميم، ونضع كل الثوار في سلة واحدة، فهناك أناس بينهم يرفضون كل هذه الممارسات، ويدينونها مثلنا، ويرون فيها تشويها لصورة نظام المستقبل، ولكن هؤلاء ربما يكونون الاستثناء ولم نسمع أصواتهم المعارضة، وإن سمعناها فهي خافتة، ضعيفة، خوفا من الأغلبية ذات النزعات الثأرية المتعطشة للانتقام. نشعر بالأسى والحزن عندما يتهم البعضُ من حكام ليبيا الجدد الأشقاءَ الموريتانيين والسودانيين الذين يقاتلون إلى جانب أنصار العقيد في سرت وبني وليد بالمرتزقة، وهي تهمة تتعارض مع كل القيم والأخلاق العربية، لأنها تنزع صفة الإنسانية عن هؤلاء لأنهم اختاروا الخندق الخطأ، في نظر بعض الثوار، عندما قاتلوا، عن قناعة أو عن ضلال، إلى جانب زعيم عربي وليس إلى جانب قوات الناتو. العرب الذين يقاتلون في سرت لا يفعلون ذلك من أجل كعكة نفطية مغرية، ولا من أجل عقود إعمار، ولا حتى من أجل حفنة من الفضة، لأنهم يعلمون جيدا بأنهم سيواجهون الموت، وأن معركتهم خاسرة لا محالة، فهم يقاتلون تحت راية نظام انهزم وانهار، ويواجهون ثوارا مدعومين من أقوى حلف في تاريخ البشرية. لا نفهم لماذا يصمت العالم على الغارات التي تشنها طائرات حلف الناتو على مدينتي سرت وبني وليد، فتدخل الناتو وطائراته جاء تحت شعار إقامة مناطق حظر جوي لحماية المدنيين من طائرات النظام السابق التي تريد تمزيقهم، ولا بد أن قادة هذا الحلف، السياسيين منهم قبل العسكريين، يعلمون جيدا بأن نظام القذافي انهار وعاصمته سقطت في يد الثوار، وأن الذين يقاتلون في سرت وبني وليد لا يملكون الطائرات ولا الدبابات، وإنما هم مجموعة من القناصة اليائسين الذين يخوضون معركة كرامة شخصية لا أكثر ولا أقل، فلماذا تقصف الطائرات هؤلاء بشكل متواصل ولأكثر من أربعة أسابيع، ومن هم ضحايا هذا القصف.. أليسوا ليبيين وعربا ومسلمين أيضا؟ وإذا كان الثوار استنجدوا بحلف الناتو لحمايتهم وأرواحهم من المجزرة، فبمن يستنجد هؤلاء، ومن يستجيب لصرخات استغاثتهم؟ ثم لماذا لا يتم التعامل مع هؤلاء بطرق إنسانية مثل الحصار والمفاوضات لحثهم على الاستسلام أو حتى ترك مهمة استعادة المدينتين لليبيين أنفسهم بعد أن أصبح ميزان القوى على الأرض لصالح الثوار وبفارق كبير، ولا يقارن بالمدافعين عن المدينتين؟ قد يجادل البعض محقا بأنه قد جرت مفاوضات وإعطاء مهلة للمدنيين للخروج، وللمقاتلين لتسليم أنفسهم، ولكن هذه المفاوضات فشلت، ولكن المهلة كانت أياما معدودة، والصحف الغربية تحدثت عن إملاءات وليس عن مفاوضات، وتعاطٍ بغرور وعجرفة من قبل المفاوضين التابعين للنظام الليبي الجديد. الربيع العربي كله لن تكون له أي قيمة إذا لم تتحول الدول العربية إلى حكم القانون، فالثورات العربية قامت أساسا من أجل استعادة الإنسان العربي لكرامته وسلامته وحقوقه الإنسانية المشروعة، من خلال إزالة الأنظمة الديكتاتورية، أي أن القاعدة هي حقوق الإنسان والحريات التي صادرتها الديكتاتوريات، وليس إطاحة الديكتاتوريات واستمرار الأنظمة الجديدة في تبني النهج نفسه. ليبيا الجديدة يجب أن تقوم على أسس صلبة من التسامح والعدالة والاحترام الكامل لحقوق الإنسان، فهذه هي أبرز ضرورات المصالحة الوطنية التي يمكن أن تقود البلاد إلى بر الأمان والتغيير الديمقراطي المأمول.