استقبال وليم هيغ، وزير الخارجية البريطانية، للسيدة تسيبي ليفني، رئيسة وزراء إسرائيل السابقة، في مكتبه بوزارة الخارجية، واحتفاؤه بها هو يوم أسود في تاريخ العدالة البريطانية، وإهانة كبرى لا يمكن وصفها لدماء أكثر من 1400 فلسطيني من أبناء قطاع غزة، نصفهم على الأقل من الأطفال، أحرقت أجسادهم الطرية قنابل الفوسفور الأبيض الإسرائيلية المحظورة دوليا. السيدة ليفني ارتكبت جرائم حرب في قطاع غزة وفق تقرير القاضي غولدستون، ويداها ملطختان بدماء أهالي القطاع العزل، وفرش السجاد الأحمر لها من قبل الحكومة البريطانية هو مباركة بريطانية رسمية لهذه الجرائم وتوفير للغطاء الشرعي والقانوني لها. القضاء البريطاني كان مفخرة لبريطانيا وشعبها وديمقراطيتها بسبب استقلاليته وقضاته عن السلطة التنفيذية، ولكن الحكومة الحالية المنحازة بالكامل إلى إسرائيل وجرائمها مارست ضغوطا كبيرة لإدخال تعديلات تسحب السلطة الشرعية من هذا القضاء، وتجعل من العدالة انتقائية وذات طابع سياسي، وهذه جريمة أخلاقية كبرى. في الماضي وقبل إدخال هذه التعديلات، كان من حق أي إنسان أن يتقدم إلى القضاء لتوقيف أي إنسان متهم بارتكاب جرائم حرب، وتترك مسؤولية تجريم هذا الشخص أو تبرئته إلى القاضي؛ الآن ورضوخا للضغوط الإسرائيلية، جرى إدخال تعديلات على هذا القانون، تسحب هذا الحق المشروع وتعطي مدير النيابات العامة سلطة القرار في هذا الشأن، وعلى أي شخص يريد الادعاء على مجرمي الحرب التقدم إليه، وهو الذي يقرر ما إذا كان في مقدور الشخص المعني الذهاب إلى المحكمة أم لا. العدالة البريطانية سقطت في الاختبار الأول عندما رفض مدير النيابات العامة البريطاني طلبا تقدم به محام مدافع عن حقوق الإنسان لرفع دعوى ضد ليفني أمام المحاكم البريطانية، والمطالبة باعتقالها تحت ذريعة أنها تزور بريطانيا في «مهمة خاصة» توفر لها الحصانة من الملاحقة القضائية. هذا يعني أن جميع مجرمي الحرب من الجنرالات الإسرائيليين يستطيعون دخول بريطانيا والإقامة فيها دون أي ملاحقة قانونية بسبب الانتقائية في تطبيق هذا القانون؛ فإذا كنت تنتمي إلى دولة صديقة فإن القانون لا يطبق عليك، مهما ارتكبت من جرائم حرب، أما إذا كنت من دولة غير صديقة لبريطانيا مثل ليبيا القذافي، أو إيران أحمدي نجاد، فإنك ستتعرض للاعتقال فورا. قانون مطاردة مجرمي الحرب وتقديمهم إلى العدالة تبنته الديمقراطيات الغربية تعاطفا مع اليهود، وللقصاص من مجرمي الحرب النازيين الذين ارتكبوا جريمة المحرقة، وحتى لا يجدوا أي مكان آمن في العالم. وعندما أصبح هذا القانون ينطبق على ضحايا الهولوكوست بسبب جرائمهم التي يرتكبونها ضد الأبرياء الفلسطينيين، تقدم الحكومة البريطانية على تعديله بما يعفي هؤلاء من الملاحقة القانونية. بريطانيا «أم الديمقراطية» و«القضاء المستقل» ترضخ للابتزاز الإسرائيلي وتلطخ سمعة قضائها وديمقراطيتها، لإرضاء الإسرائيليين ومجرمي الحرب من قادتهم، لأن ضحاياهم من العرب والمسلمين، ومن الفلسطينيين على وجه التحديد الذين تسببت بريطانيا في نكبتهم وضياع حقوقهم وتشريدهم من وطنهم. الحكومة البريطانية تعتقل الشيخ رائد صلاح بتهمة تشكيل خطر على الأمن البريطاني، وهو الرجل المسالم الذي لم يقتل دجاجة في حياته، بينما تفتح أبوابها على مصراعيها أمام تسيبي ليفني التي أرسلت حكومتها الدبابات والطائرات لقصف الأبرياء في قطاع غزة دون رحمة أو شفقة، وتدمير بيوتهم المتهالكة فوق رؤوس أطفالهم. إن وجود ليفني على الأرض البريطانية هو «وصمة عار» للحكومة البريطانية المحافظة، وتأكيد إضافي على أن كل ادعاءاتها حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي استخدمتها لتبرير عدوانها على العراق وتدخلها العسكري في ليبيا، هي مجرد أكاذيب فارغة من أي مضمون. لا نستغرب أن يقدم ديفيد كاميرون، رئيس هذه الحكومة، على إدخال التعديلات القانونية هذه لإرضاء أصدقائه في تل أبيب، ولا نفاجأ إذا كان وزير خارجيته وليم هيغ هو الذي استقبل ليفني بالترحاب، متباهيا بهذا الانتصار الكبير، فالأول كان رئيس جماعة أصدقاء إسرائيل في مجلس العموم البريطاني، والثاني انضم إلى هذه الجماعة وهو في الرابعة عشرة من عمره. كنا نتوقع من الحكومة البريطانية أن تغلق أبوابها ونوافذها في وجه المسؤولين الإسرائيليين جميعا، وليس مجرمي الحرب منهم فقط، بسبب مخالفتهم للقوانين الدولية ومعاهدة جنيف الرابعة بالاستمرار في الاستيطان ومصادرة الأراضي ورفض كل الاستجداءات البريطانية في هذا الخصوص، ولكن هناك «سحرا» إسرائيليا لا نعرف أسراره يجعل المسؤولين البريطانيين يركعون أمام هؤلاء، طالبين الصفح والغفران، لأن قوانينهم لا يمكن أن تمسهم بأي سوء حتى لو ثبتت الاتهامات ضدهم. مؤسف أن بريطانيا التي تقدمت بالأمس بمشروع قانون إلى مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات على النظام السوري لأنه يقتل شعبه، تعفي الإسرائيليين من أي مساءلة قانونية لقتلها شعبا صغيرا محاصرا مجوعا بقصفه من البر والبحر والجو لثلاثة أسابيع متواصلة دون رحمة أو شفقة. لن نصدق كل الادعاءات البريطانية حول حقوق الإنسان، ولن نستمع مطلقا إلى تصريحات ومحاضرات المسؤولين فيها حول تأييدهم للربيع العربي، فهؤلاء يفتقدون كليا المصداقية، ويقولون عكس ما يفعلونه ويمارسون الكذب والخداع في أبشع صوره وأشكاله. بريطانيا ستكون الخاسر الأكبر من هذه السياسات المؤيدة للظلم والقتل وانتهاك القوانين الدولية، التي كانت أبرز المساهمين في وضعها، بل وفرضها على البشرية؛ فالعالم العربي يتغير بسرعة نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والقانونية، أما هي فتتخلف وبسرعة متناهية، وهذا أمر مؤسف بكل المقاييس. الدم الفلسطيني ليس له أي اعتبار لدى حكومة المحافظين البريطانية، طالما أنه يسفك على أيدي الإسرائيليين، فهؤلاء فوق كل القوانين والأعراف، ومسموح لهم بارتكاب ما شاؤوا من جرائم الحرب، وعليهم أن يكونوا مطمئنين إلى أمرين أساسيين، الأول «الفيتو» الأمريكي الذي يوفر لهم الحماية في الأممالمتحدة، والثاني الوفاء البريطاني الدائم لهم. لا نملك إزاء هذا الجور والظلم الغربيين، البريطاني والأمريكي خاصة، غير أن نظل نكتب وندق الجرس، دون أن ننسى أن العيب فينا وفي أمتنا النائمة، فاقدة الحركة والكرامة، التي تقبل بمثل هذه الإهانات.