كان للشريط الساحلي الرابط بين الجديدة جنوبا وآسفي شمالا أهمية كبرى من حيث حصيلة التحريات الأثرية، سواء التي أنجزت عليه في بداية القرن أو التي مازالت غابرة علميا رغم وفرة المعطيات الجيولوجية والمادية التي تؤشر إلى وفرة الآثار التاريخية. ولعل أبرز ملاحظة يمكن أن يستنتجها العابر العادي لهذا الشريط هي وفرة الأضرحة وقباب الأولياء من تيط (مولاي عبد الله) وسيدي عابد وسيدي موسى وأولاد غانم حتى الواليدية وأيير والعكارطة إلى رأس كنتان مع سيدي محمد شراحل المتواجد على قمة صخرة ثم الصالحة لالة تساوت وسيدي بوشتة ولالة فاطنة محمد ثم سيدي بنكرارة إلى سيدي بوزيد في باب آسفي الشمالي، ونتقدم جنوبا لنجد سيدي بوزكري وسيدي الخدير وسيدي بوذهب والجزولي وللاعائشة مريم وسيدي قاضي حاجة، حتى نصل إلى أقصاهم على مشارف وادي تانسيفت سيدي دنيال. إن هذا الكم الهائل والمثير لقباب الأضرحة وعلى الساحل لم يأت اعتباطا مع التاريخ، إن هذا المجال هو وعاء أثري جد هام مازال يثير فضول عدد من الدارسين لكونه لم يحظ بكامل العناية العلمية، رغم أن المنطقة وردت في نصوص تاريخية جد قديمة وبالغة الأهمية، فقد أوردها حانون الرحالة الشهير ضمن كتبه باسم رأس صوليس الذي اتفق الباحثون الأثريون على أنه رأس كنتان، وفيه يقول حانون في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد المسيحي: «بنينا به معبدا للآلهة بوزيدون إله البحر»، وهو نفس التطابق نجده عند الباحث شارل تيسو الذي أشرف على تحريات وأبحاث ميدانية على الساحل المغربي في أواخر القرن التاسع عشر. وفي دراسة لمحمد المجذوب ضمن سلسلة بحوث ودراسات دفاتر دكالة-عبدة، نجده يعتمد على أبحاث شارل تيسو في تحديد المعالم الأثرية البارزة، ومنها نجده يصف أعماله وصفا دقيقا ومتسلسلا من تيط حتى آسفي: «ثم انتقل إلى مدينة تيط فلاحظ أن الساحل المتقابل معها صالح لرسو السفن، وفيه مياه عذبة، وتحدث عن كثرة الحفر المنحوتة في الصخر في ضواحي تيط، ورجح أن الأمر يتعلق بمقبرة تعود إلى الفترة البونية كان يستعملها سكان روتبيس. أما المنطقة التي تمتد ما بين موقع تيط والرأس الأبيض، فأكد عدم توفرها على أثر للإعمار البشري في القديم، ولاحظ نفس الظاهرة بالنسبة إلى ضاية الوليدية، ومع ذلك ظن أن الهضبة التي تشرف على هذه الضاية ملائمة لسكنى البونيين، نظرا لتوفرها على مقابر وأضرحة قديمة. وفي رأس كنتان تحدث عن غرفة محفورة في الصخر قرب ضريح محمد شراحل، وهو مكان يأوي إليه السكان مما جعل سواد الدخان يغطي جدران هذه الغرفة، ثم ذكر غرفة أخرى مماثلة بالقرب من الأولى، وقال إن ضريح سيدي محمد شراحل الموجود في قمة صخرة شبيه في موقعه بمعابد البحارة القدماء. كما تساءل عن أحواض محفورة بالصخر في الهضبة التي يوجد بها ضريح لالة تساوت، مؤكدا أنه لا يعرف لها نظيرا في أي مكان آخر، ومع ذلك رجح أن الأمر يتعلق بطريقة الدفن المعروفة في مناطق نفوذ القرطاجيين. ثم تحدث عن ضريح بوني في أعلى أجراف رأس كنتان، وهو على شكل بئر محفور في الصخر، ويؤدي إلى غرفة في باطن الأرض، قال موضحا: يعود الفضل في اكتشافي (شارل توسي) لهذا الضريح إلى أرمان لوكي، الذي لاحظ أنه يشبه الغرف المحفورة في باطن الأرض بالرأس الطيب (تونس)... إن الأمر يتعلق بضريح بوني محفور في الصخر، يضم بئرا وغرفة. ثم أفاد توسي بأن هذا الضريح يشبه المدافن القرطاجية التي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وأشار إلى أن هذا الضريح يشبه القبور التي تم اكتشافها في فينيقية وقبرص». وعن رفيق شارل توسي الباحث أرمان لوكي، فقد أورد ونقله محمد مجدوب أنه اعتبر مدينة تيط موقعا بونيا نظرا لتوفرها على كثير من الآبار الجنائزية، موضحا أن هذه المدافن كانت معروفة منذ هنري تراس سنة 1927، وقد أكد أنه لم يعثر على مواد أثرية في أبحاث أنجزها في هذه المدافن، كما ذكر غرفا قديمة تحولت إحداها إلى ضريح سيدي محمد امبارك. وفي استقصائنا عن تاريخ المنطقة في الدراسات التاريخية المغربية القديمة يشدنا ما كتبه عنها المؤرخ الكانوني محمد الذي دون في كتابه «آسفي وما إليه» الصادر سنة 1934 معالجة حديثة لتاريخ أيير والكاب كنتان، يقول: «هذه القصبة (ويعني أيير) إحدى المحارس البحرية الإسلامية موقعها شمال آسفي على لسان داخل في البحر، لها بابان أحدهما للبحر وعليه برج كبير والآخر للبر وعليه برج كبير أيضا، وبخارج هذا الباب مسجد عتيق يحتوي على عشرين سارية له باب بحري كتب عليه من داخل «فتح هذا الباب لجهة البحر منذ 1200»، وله منار ومدرسة محتوية على عدة بيوت يدل ذلك على ما كان لأهلها من عناية بالقرآن والعلم والدين». ويضيف المؤرخ الكانوني: «لم نطلع على تاريخ تأسيس هذه القصبة إلا أنها كانت موجودة في القرن الثامن الهجري وتعرف في التواريخ الإفرنجية ب»كاب أيير»، وهي إحدى النقط التي كان احتلها البرتغال، وكانت لرجل برتغالي بها دار لصيد السمك فاشتراها من سلطان البرتغال وبنى بها برجا سماه سانت كسروي (الصليب المقدس)، وكان هذا البرج مركز الجنود البرتغال الذين يذهبون إلى الجنوب (آسفي) بقصد الاستطلاع والانقضاض. وفي سنة 1517م موافق سنة 922ه، توجه إليها الشريف أبو عبد الله محمد السعدي، فشق البلاد حتى بلغ إليها وحاصرها، فكان من حسن حظه أن انفجر برميل بارود بداخلها فانهدت بسببها بعض الأسوار، فاختل نظام البرتغاليين فسلموا أنفسهم أسرى للشريف، يسكنها الآن قوم من صنهاجة وغيرهم كانوا محل إجلال من ملوك الإسلام لقيامهم بحراسة البحر، وهي الآن آخذة في التلاشي على رغم وفرة سكانها وفقهم الله». وعن رأس كنتان، أورد الكانوني أنها مدينة قنط (كنتان) موقعها شمال آسفي على بعد نحو 34 كيلومترا بشاطئ البحر، وقال الحسن بن الوزان الغرناطي المدعو ليون الإفريقي «بناها الأفارقة الأقدمون ثم حكى قولا أن بانيها الغوط، أما مرمول فرجح أن القوط هم من بنوها وقت استيلائهم على منطقة طنجة. ويزيد الكانوني على ذلك بقوله: «وكانت قبل اليوم كثيرة العمارة رائجة التجارة، لكن ضربها العرب أيام طارق لما ذهب لفتح الأندلس وما بقي منها أتم البرتغال تخريبه، ويرى الآن بعض جدرانها مما بقي من الخراب وعرب الغربية هم الذين يتولون حكمها. قال الحسن هي مدينة فلاحية ذات خصب، أهلها ديانة واستقامة وشجاعة لكثرة محاربتهم البرتغال. وهي الآن لا أثر لها، في موقعها الآن المنارة الشهيرة المعروفة كاب كنتان، أسست في الدولة اليوسفية وهي من أهم منائر المغرب»، انتهى كلام الكانوني. وكما أسلفنا، فإن منطقة هذا الشريط الساحلي غنية بمعالم أثرية قديمة هي حتما نتائج حضارة ضاربة في القدم، ولا أدل على ذلك ما احتوى عليه المجلد الثاني لحضارات إفريقيا القديمة لسلسلة تاريخ إفريقيا العام الذي أعدته اللجنة العلمية الدولية لتحرير تاريخ إفريقيا العام التابعة لمنظمة اليونسكو سنة 1985، ففي الصفحة 612 الفصل 24 الخاص عن غرب إفريقيا قبل القرن السابع نجد الفقرة التالية: «وإلى جانب استيطان إنسان ما قبل التاريخ للمخابئ الصخرية، فقد قطن أيضا القرى الكبيرة نسبيا على سفوح التلال وأطراف المنحدرات وأحجار الرحى والطحين، والأحجار المنقرة وأحجار الصقل وأعمال الفخار وأدوات من الشقف». والمراد من هذا النص هو تبيان أن قيمة الآبار الجنائزية مازالت بعيدة عن اهتمام الباحثين رغم حمولتها التاريخية والأثرية وتضارب القراءات التفسيرية التي تقدم بشأن وظيفتها، وقد أعطى الباحث لوكي وصفا لهذه الغرف التحت أرضية، فقطرها يتراوح بين ثمانين سنتيمترا وعمقها بين متر وستة أمتار ونصف وفوهتها إما دائرية أو مربعة أو مستطيلة. وفي صلة بالموضوع، تجدر الإشارة إلى توفر المنطقة على نقطتين أثريتين قليلتي التداول ضمن المراجع والدراسات التاريخية، ويتعلق الأمر بمدينة تيغالين المغمورة تحت مياه البحر بأقدام الصخور المطلة على البحر بالجهة الجنوبية الغربية المحاذية لمنارة رأس كنتان، ومقبرة بمنطقة لالة فاطنة محمد وهي بكل تأكيد مميزة وفريدة بنقوشها الصخرية القديمة على حافة القبور. لقد تناولت الرواية الشفوية الموضوع، وأعادت بناء تاريخ المنطقة بشكل أسطوري، مقدمة تفسيرات مختلفة لكل التساؤلات بخصوص معابد قدماء البحارة والآبار الجنائزية، وهي عملية على كل حال تستدعي القيام بدراسة خاصة بها، والعمل على تصفيتها وملاءمتها مع وقائع علمية في إضافة نوعية قد تفيد حتما بتقدم البحث واستجلاء الحقيقة الضائعة لتاريخ القبور الجنائزية.