إذا كان شباب الثورات وشباب الحراكات السياسية الكبيرة لا يريدون أن تذهب دماء شهدائهم سدى بعد أن حققوا الكثير الكثير، فإنهم يحتاجون إلى أن يتعاملوا مع اللحظة الحالية، لحظة ما بين الثورة أو الحراك وما بين تحقق الأهداف التنموية الكبرى، يتعاملوا معها كفترة انتقالية مؤقتة لا بد منها. والفترات الانتقالية لها شروطها ومتطلباتها. من بين المتطلبات قبول وممارسة الأسلوب السياسي الشهير المعروف بالتوافقية، والتوافق هو تلاقي الأفكار والآراء حول أحكام مشتركة. وللعلم، فإن هذا الأسلوب كتب عنه وأدخله في الفكر السياسي الفيلسوف والسياسي الروماني الشهير سيسرو الذي اعتبر ممارسته ضرورية لبقاء الجمهورية. وعادة، يصبح التوافق سهلا وتحصيل حاصل عندما تكون هناك مصالح مشتركة وفهم مشترك لهذه المصالح واتفاق على سبل تحقيقها. أما إذا تناقضت المصالح فيصبح التوافق صعبا، ولكن غير مستحيل. لماذا الحديث عن ذلك؟ لأن الاختلافات وسوء الفهم، ومن ثم الشك والتباعد، في ما بين مختلف قوى شباب الثورات والحراكات وفي ما بينها وبين القوى السياسية المعارضة الكلاسيكية السابقة، أصبح ظاهرة تثير القلق والخوف، لكأن الثورات قد اكتملت والحراكات قد حققت أهدافها وأننا نعيش أوضاعا مستقرة عادية تحتمل الخلافات حول القضايا الفرعية والصراعات حول تقاسم الكعكة. هناك، إذن، ضرورة وطنية وقومية ومصلحيه لأن تتعامل قوى التغيير، الثورية منها وغير الثورية، مع الواقع السياسي العربي، وربما لبضع سنوات قادمة، من خلال احتضان وممارسة مفهومي الفترة الانتقالية المؤقتة والعمل التوافقي. كيف سينعكس ذلك على الواقع؟ أولا: الوعي والاتفاق بين كل أطياف المعارضة على أن المصلحة المقدسة المشتركة لجميع القوى التي واجهت الأنظمة السابقة قبل وأثناء الثورات هي ألا تنتكس الثورات والحراكات أو تتراجع أو تتشوه أو تسرق أو تدخل في المصائد التي تتعمد نصبها قوى خارجية وداخلية. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بتقديم الأهم على المهم، وإلا بقبول التضحية ببعض المصالح الذاتية من أجل المصالح المشتركة، وإلا بالرفض التام لمبدأ التنافس على الحصص في الوقت الحاضر. بمعنى آخر، أن يكون الهدف المفصلي تخليص المجتمع بصورة جذرية من وجود رجالات السلطة السابقين الفاسدين ومؤسساتهم وكل أنواع أعوانهم وقوانينهم في الساحة السياسية، بما فيها الأحزاب والبرلمانات ومنابر الإعلام والدين. وكمثل صارخ، يقتضي أن تتعاون بشكل كامل وفاعل كل قوى المعارضة في خوض الانتخابات القادمة، سواء البرلمانية أو الرئاسية أو البلدية أو غيرها، من أجل سد كل المنافذ في وجه من حكموا هذه الأمة بالاستبداد والظلم والنهب وخيانة الاستقلال الوطني والقومي... إلخ، حتى لا يعودوا إلى الساحة السياسية مجددا. في فترة الانتقال، لا يوجد مبرر لأي تنافس في ما بين قوى المعارضة حول اقتسام الكراسي والنفوذ، فأي منهم سيكون أفضل للأمة من أي من ممثلي العهود السابقة. أي خلاف في وجهات النظر يجب أن يؤجل إلى ما بعد الانتخابات، وأي تنافس يؤجل إلى الانتخابات المستقبلية عندما تكون المجتمعات قد تخلصت من جراثيمها السياسية وبدأت في التعافي. باختصار، ستحتاج جميع قوى المعارضة التعامل مع بعضها البعض من خلال مبدأ حلول الوسط الذي وصفه زعيم حزب العمال البريطاني السابق نيل كينوك بكونه يشبه واصل السيارة (Gear) الذي بدونه لا تسير السيارة ولا تنفع أحدا، حتى ولو بدت جميلة. ثانيا: لا تحتاج قوى المعارضة إلى التكاتف فقط من أجل سد الأخطار الداخلية، فالأخطار الخارجية التي تهدد الثورات وتسعى إلى دفعها للانتكاسة والتشويه، حتى لا تتأثر مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، تكاد تكون مساوية للأخطار الداخلية، فالعدو الصهيوني وأمريكا وبعض دول أوربا لن تقبل قط بأن تكون الثورات والحراكات وطنية تسعى إلى الاستقلال الكامل عن نفوذها وإلى حرية الأوطان، وأن تكون قومية تسعى إلى وحدة الأمة العربية ووحدة وطنها العربي الكبير وتقف مجتمعة في وجه الاستيطان الصهيوني ومشاريعه الاستعمارية. إبقاء الأمة مجزأة، بل والإمعان في تفتيتها على أسس عرقية ودينية ومذهبية وقبلية، ونهب ثرواتها، ومحاصرة كل إمكانيات القوة والنهوض فيها، لن تتنازل عنه تلك القوى الخارجية قط، فهذا جزء عضوي أصيل من مخطط بدأ بالحروب الصليبية منذ تسعة قرون، ومر بتدمير مشروع محمد علي باشا، وباحتلال واستعمار كل الأرض العربية، وبزرع الوجود الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وبمقاومة كل محاولة قومية وحدودية كالمحاولة الناصرية، وانتهاء في أيامنا هذه باحتلال العراق وباختلاق فتنة مذهبية حقيرة بين الشيعة والسنة. والقائمة طويلة تحتاج إلى مجلدات. باب التدخلات الخارجية، من خلال الأعوان في الداخل، والمنح المالية لهذه الجهة أو تلك تحت ألف غطاء وغطاء، والابتزاز الاقتصادي، وإثارة شهوات السلطة عند بعض العساكر والأحزاب والمغامرين الانتهازيين، هذا الباب يجب أن يكون أولوية الأولويات عند قوى المعارضة.. إنه أهم بكثير من تثبيت الوجود في الشارع أو اقتسام كراسي البرلمانات أو إضافة سنتيمتر واحد في ساحة السياسة. سد الأبواب في وجه الأنظمة الفاسدة الاستبدادية السابقة ومنعها من العودة من الشبابيك الخلفية، وسد الأبواب في وجه القوى الخارجية الراغبة في استعمال الثورات والحراكات لتنفيذ مخططاتها الاستغلالية التفتيتية المعروفة.. هذان هما المطلوبان في فترة الانتقال كأولوية قصوى، أما الباقي فيمكن تأجيله إلى حين.