حدث ذلك قبل الثورة بعامين.. تلقيت اتصالا من المخرج الفرنسي جون لوي مارتينيللي، أخبرني خلاله بأنه قرر أن يعد مسرحية مأخوذة عن روايتي «شيكاجو».. رحبت بالفكرة وزارني مارتينيللي مرارا في القاهرة ليعرض عليّ تصوره عن المسرحية التي يعدها. جون لوي مارتينيللي واحد من أهم مخرجي المسرح في فرنسا، وقد تولى إدارة عدة مسارح فرنسية مهمة، وهو الآن مدير مسرح «ليزاماندييه» الشهير في باريس. اشتهر مارتينيللي بثقافته الرفيعة وأفكاره المتحررة وانتمائه إلى القضايا الإنسانية ودفاعه عن حقوق الإنسان بغض النظر عن الموقف الرسمي للحكومة الفرنسية. من الناحية الفنية، يتميز مارتينيللي بأفكاره المسرحية الخلاقة وتجديده الدائم في فن المسرح مع التركيز على العنصر الفني الإنساني، فهو يقدم مسرحا فنيا جديدا ومتاحا للناس جميعا، وقد أعد وأخرج من قبلُ عروضا كثيرة مأخوذة من الأدب العالمي الكلاسيكي والمعاصر. التقيت به لأول مرة، فوجدت رجلا يناهز الستين يتميز بنشاط وحيوية الشباب، شخصيته هادئة متواضعة. شرح لي أنه يحس بأن من واجبه كفنان فرنسي أن يقدم أعمالا مسرحية تؤكد أننا جميعا، مهما تكن اختلافاتنا الدينية والعرقية، في النهاية، بشر لنا نفس الأحاسيس والأفكار، وقد وقع اختياره على روايتي «شيكاجو» لأسباب شرحها لي بالتفصيل. شكرته على ثقته، وقلت له إنني أعتبر نفسي مسؤولا فقط عن الرواية التي كتبتها، وإنني لا أتدخل إطلاقا في الإعداد لأنني مقتنع بأنه مسؤولية المعد وليسَ مسؤولية مؤلف الرواية. بالرغم من ذلك، فقد أصر مارتينيللي على أن يطلعني، أولا بأول، على تطور العمل وأرسل إليّ النص المسرحي لأقرأه.. أعطى مارتينيللي المسرحية عنوان «كنت أتمنى أن أكون مصريا». افتتح العرض في مسرح «ليزاماندييه» يوم 16 شتنبر وسوف يستمر حتى يوم 21 أكتوبر، وبعد ذلك سيطوف في مارسيليا وليون ومدن فرنسية عديدة. سافرت إلى فرنسا مدعوا من مسرح «ليزاماندييه» من أجل مشاهدة العرض المأخوذ عن روايتي.. كنت أعرف ذلك الشعور الذي انتابني من قبل عندما شاهدت فيلم «عمارة يعقوبيان» لأول مرة في نيويورك.. شعور غريب يجمع بين السعادة والدهشة. هذه الشخصيات التي تخيلتها وعملت على كتابتها على مدى شهور، هاهي أمامي الآن يجسدها ممثلون يتحركون ويتكلمون كما تخيلتهم. إلى جانب هذا الشعور الجميل، كنت أفكر في ما هو أهم: أن أديبا مصريا تقدم أعماله الآن على واحد من أهم المسارح الفرنسية.. هذه مكانة مصر التي تستحقها.. مسرح «ليزاماندييه» يقع على بعد نصف ساعة بالسيارة عن وسط باريس، وهو قد اكتسب شهرة عريقة لأن الذي أسسه عام 1966 هو الأديب الفرنسي العظيم أندريه مالرو عندما كان وزير الثقافة في عهد الرئيس ديجول . اتخذت مقعدي في القاعة المزدحمة بالجمهور الفرنسي الذي جاء ليرى كيف سيقدم مخرجهم المحبوب مارتينيللي لأول مرة عرضا مأخوذا من رواية مصرية . تم إطفاء الأنوار تمهيدا لبداية العرض، لكننا فوجئنا بمجموعة من الرجال والنساء يقتحمون القاعة وهم يصيحون بطريقة مزعجة، مما أثار اعتراض بعض الحضور، لكننا سرعان ما اكتشفنا أن هؤلاء المقتحمين هم الممثلون أنفسهم. ها هو مارتينيللي العظيم يبدأ ألعابه السحرية: لقد قرر أن يدخل الممثلون إلى المسرح من الصالة وليس من الكواليس، بل إن فكرة العرض كله مبتكرة، فنحن نرى مجموعة ممثلين يجلسون على مائدة طويلة ليقرؤوا أدوارهم في المسرحية، وهكذا يتحكم المخرج في الخيوط الدرامية كما يريد.. ففي أية لحظة، يتحرك الممثل ليؤدي دوره على المسرح ثم ينزوي في ركن أو يعود إلى مائدة القراءة، بينما يقوم ممثل آخر ليؤدي دوره، وهكذا تمضي الخطوط الدرامية متلاحقة بينما الممثلون كلهم موجودون على المسرح، بل إن مارتينيللي استعمل الممثلين في إعطاء خلفيات تساعد الأداء.. فعندما يدور الحوار بين ممثلين، يكون هناك ممثلون آخرون في الخلفية يشكلون عنصرا بصريا مكملا للمشهد الرئيسي.. أعجبت كثيرا بقدرة مارتينيللي على السيطرة الكاملة على الممثلين والأحداث والتحكم في إيقاع العرض، حتى إن المسرحية التي تستغرق ثلاث ساعات كاملة لا تثير الملل لدى المشاهدين الذين ظلوا يتابعون بشغف الأحداث الدرامية المتلاحقة.. طريقة أخرى مبتكرة ومدهشة في اختيار الممثلين لجأ إليها مارتينيللي عندما قرر، وهو يختار ممثليه، أن يتحرر من قيود الشكل.. في الرواية شخصية اسمها أحمد دنانة (وهو مبعوث مصري يدرس للحصول على الدكتوراه في شيكاجو، وفي نفس الوقت عميل لمباحث أمن الدولة). الذي أدى شخصية دنانة ممثل فرنسي اسمه إريك كاروزو، وقد تم تركيب كرش صناعي له حتى يبدو مثل دنانة الذي وصفته في الرواية.. لماذا لم يختر مارتينيللي ممثلا عربيا لأداء شخصية دنانة؟ لقد أراد، كما قال لي، أن يؤكد على انتمائه الانساني، فهو يرى أننا جميعا بشر وأن الشخصيات الأدبية تتكرر في كل مكان وزمان، وبالتالي فقد قرر أن يتحدى التفكير النمطي للمتفرجين، فهاهو ممثل فرنسي يؤدي دور شخص مصري قادم من أعماق الريف المصري وينجح، فعلا، بعد دقائق في إقناعك بأنه هو، فعلا، أحمد دنانة.. تنتهي المسرحية ليندفع المتفرجون في حالة من التصفيق الحماسي الذي استمر أكثر من ربع ساعة، اضطر خلالها الممثلون إلى الخروج من الكواليس لتحية الجمهور أربع مرات متوالية لأن التصفيق لا يريد أن يتوقف. دعاني المخرج، فصعدت إلى المسرح وصافحت الممثلين جميعا، ثم التقيت بهم بعد العرض وتحدثنا، فلمست منهم فهما حقيقيا عميقا لقيمة ما يفعلونه.. إنهم يعتقدون أننا نحتاج إلى الفن الآن أكثر من أي وقت مضى، وهم جميعا ممثلون محترفون، لكنهم يعتبرون أنهم أصحاب قضية في الفن والحياة وليسوا مجرد أشخاص مأجورين للتمثيل كما قال لي أحدهم.. يجب هنا أن أذكر أن مسرح «ليزاماندييه» ومعظم المسارح الكبرى في فرنسا تتلقى دعما من المال العام، هناك قاعدة مستقرة في فرنسا وهي أنه لا يمكن للدولة أن تترك المسرح للإنتاج الخاص لأنه سيبحث عن الربح بأية طريقة، مما سيؤدى إلى نتيجتين: أولا، التضحية بالفن الراقي من أجل التسلية، وربما الإثارة الجنسية؛ وثانيا، ارتفاع أسعار التذاكر، مما يؤدي إلى حصر الجمهور في الأغنياء وحرمان طبقات الشعب من المسرح الجاد الحقيقي. التذكرة في مسرح «ليزاماندييه» والمسارح الفرنسية العامة لا تتجاوز ثمن وجبة غداء في مطعم رخيص.. إن الثقافة حق أصيل للشعب.. هذه القاعدة استقرت في فرنسا ولم تستطع حكومات اليمين أن تغيرها. أضف إلى ذلك أن مارتينيللي ومعظم المخرجين الكبار في فرنسا يساريون لهم مواقف واضحة ومعلنة ضد سياسات الرئيس ساركوزي، لكنهم مع ذلك يتلقون الدعم من الدولة الفرنسية من أجل القيام بواجبهم كفنانين في خدمة الشعب. والسبب في ذلك أن أحدا في فرنسا لا ينظر إلى الرئيس باعتباره والد الفرنسيين أو باعتباره رمزا لفرنسا، إلى آخر هذه العبارات الخائبة الفارغة التي طالما استعملت من أجل تبرير الاستبداد في مصر.. بعد أن خرجت من العرض، كان لا بد أن أفكر في هذا السؤال: «ماذا ينقص مصر» حتى تحقق هذا التقدم الفني وتصبح مثل فرنسا..؟ الحق أن الإمكانات الفنية في مصر ليست أبدا أقل من فرنسا . لدينا المؤلفون والمخرجون الموهوبون، ولدينا تاريخنا الفني الذي يجب أن نفخر به . يكفي أن نسترجع تاريخ السينما في فرنسا ومصر.. لقد أقيم أول عرض سينمائي في العالم في باريس في دجنبر عام 1895.. بينما أقيم أول عرض سينمائي في مصر في الإسكندرية في نونبر عام 1896، أي أن السينما دخلت مصر فقط بعد 11 شهرا من بدايتها في فرنسا، بمعنى أن المصريين عرفوا السينما قبل دول أوربية كثيرة .. مصر تملك كل إمكانات النهضة الفنية، لكنها تعطلت سنوات بسبب الاستبداد والتطرف.. الاستبداد الذي يضع أشخاصا في مناصب لا يستحقونها ويجعل ولاء المسؤولين للحاكم وليس للشعب، مما يؤدى إلى فساد الثقافة وتدهورها.. كما رأينا عندما كان فاروق حسني، وزير ثقافة مبارك، حريصا على شراء ذمم المثقفين وتحويلهم إلى أبواق للاستبداد ومهتما بإرضاء مبارك وزوجته بأنشطة ثقافية استعراضية بلا مضمون. وهنا أذكر أن صديقي مارتينيللي قابلني بعد أن حضر مهرجان الإسكندرية للسينما في عهد مبارك، وعندما سألته عن انطباعه، قال لي: - لقد شعرت بأنهم قاموا بدعوتي من أجل أخذ بعض الصور التذكارية، وبعد ذلك لم يجدوا ما يفعلونه معي. الخطر الثاني الذي يهدد الثقافة المصرية هو انتشار الفهم الوهابي للإسلام مدعوما بأموال النفط.. هذا الفهم الوهابي معاد للفنون جميعا . الفن يستعمل الخيال في تصوير الواقع بعيوبه وأخطائه بينما الذهن المتطرف بطبيعته ليس مؤهلا لأي نوع من الخيال. إن المتطرفين في مصر خارجون عن سياق الحضارة بمعنى الكلمة.. فهم يهاجمون نجيب محفوظ العظيم لأنه يصور رواد الحانات في رواياته، وهم لا يفهمون قيمة الآثار الفرعونية العظيمة ويريدون تغطية وجوهها بالشمع خوفا من أن يعبدها المصريون باعتبارها أوثانا. هذه العقليات تحتاج إلى إعادة تأهيل، حتى تدخل إلى الحضارة.. في ذلك العرض المسرحي الرائع الذي قدمه المخرج مارتينيللي وممثلوه العظام، في وسط المشاعر الإنسانية الجياشة التي انتابت المتفرجين ربما لا يستوقف المتطرف سوى أن الممثلة ليست محجبة أو أن زميلها الممثل قد أمسك بذراعها وهو يؤدي دوره.. هناك تناقض جذري بين التطرف والفن.. المتطرف لا يمكن أن يتذوق الفن ومتذوق الفن لا يمكن أن يكون متطرفا. على أنني متفائل بمستقبل الفن في مصر أكثر من أي وقت مضى.. لقد قامت ثورة مصر العظيمة وخلعت حسني مبارك، وهو الآن يحاكم على جرائمه الكثيرة الرهيبة في حق المصريين، لكن المعركة لم تنته.. إنها بالكاد تبدأ. هناك محاولة لإعادة إنتاج نظام مبارك كما أن مؤامرات الثورة المضادة لا تنقطع من أجل منع التغيير والضغط على المصريين حتى يتخلوا عن أهداف ثورتهم.. لكن الثورة لازالت قائمة ومتقدة وسوف تنتصر بإذن الله. كل من يتصور أنه يستطيع أن يمنع التغيير أو أن بمقدوره أن يخدع المصريين أو يقمعهم، أنصحه بتأمل حسني مبارك وولديه وهم واقفون كمتهمين في محكمة الجنايات، ليأخذ العبرة. مصر بدأت المستقبل ولن تعود إلى الوراء أبدا. الديمقراطية هي الحل.