خلال ثمان وأربعين ساعة، قامت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بجولة على أربع دول مغاربية هي ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وبدت الزيارة أنها تدور في إطار منح صكوك الغفران السياسي في نهاية ولايتي بوش لتلك الأنظمة التي وقفت إلى جوار السياسة الأمريكية ودعمتها خلال السنوات الثماني الماضية، لاسيما بعد مرور سبع سنوات على إعلان الرئيس الأمريكي بوش حربه على ما يسمى بالإرهاب، وكانت الزيارة الأكثر تركيزا واهتماما من قبل الإعلام العالمي هي الزيارة التي قامت بها رايس لليبيا التي وصفت بأنها الأولى لوزير خارجية أمريكي منذ خمسين عاما، حيث كان وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس هو آخر وزير خارجية زار ليبيا في عهد الملكية عام 1953، وقد جاءت زيارة رايس في أعقاب استجابة ليبيا لكل الشروط الأمريكية التي أعقبت قيام الرئيس الليبي بتسليم الأمريكيين كل ما كان لدى ليبيا من مشروعات وطموحات عسكرية بعدما شاهد القذافي ما حدث لصدام حسين وأبنائه على يد الأمريكيين، بل والأكثر من ذلك قيام ليبيا بتسليم الولاياتالمتحدة كافة الملفات والأوراق وأسماء كافة العلماء والشركات الذين تعاونوا مع ليبيا في مشروعاتها النووية والعسكرية، وقام الأمريكيون بتعقب عشرات العلماء حول العالم وكان من بينهم العالم الباكستاني عبد القدير خان أبو القنبلة النووية الباكستانية كما يلقب، ولم تكتف الولاياتالمتحدة بذلك، بل كان هذا بداية للحصول على كل ما تريده وأكثر، ففتحت ملفات لوكربي والانفجارات في ألمانيا وغيرها وتم «حلب» ليبيا بإجبارها على دفع عشرات المليارات من الدولارات مقابل حصولها على صك البراءة وترتيب هذه الزيارة، لذلك قالت رايس بعد لقائها بالقذافي في الخامس من سبتمبر: «إنها لحظة تاريخية جاءت بعد كثير من الصعوبات ومعاناة الكثير من الأشخاص، والتي لن تنسى أو تهدأ أبدا خاصة للأمريكيين الذين أوليهم اهتماما كبيرا». وأضافت: «أنا أفهم من هؤلاء الذين كانوا هناك أن ليبيا مكان يتغير وأنا أرغب في مناقشة كيفية حدوث ذلك التغيير لأن ليبيا أكثر انفتاحا، ليبيا تتغير فعليا، وسيكون هذا أمرا جيدا لليبيا والمجتمع الدولي». هكذا منحت رايس ليبيا صك البراءة والغفران، بعدما لم يعد لدى ليبيا شيء سوى أن تستمر في تقديم فروض الطاعة والولاء والالتزام بكل ما تفرضه الولاياتالمتحدة، وقد سعت رايس وكذلك رئيسها بوش إلى التأكيد لكل من كوريا الشمالية وإيران وغيرها من الدول التي تعتبرها الولاياتالمتحدة دولا مارقة أن ليبيا هي النموذج الذي يجب على هؤلاء أن يحذوا حذوه. وفي زيارتها للدول المغاربية الأخرى، حرصت رايس على التأكيد على شراكة هذه الدول مع الولاياتالمتحدة في حربها على ما يسمى بالإرهاب، فالتقت بمسؤولي الأمن والاستخبارات علاوة على المسؤولين السياسيين وقد حرصت في المغرب على لقاء وزير الداخلية شكيب بن موسي ورئيس الاستخبارات العسكرية ياسين منصوري، وذلك إلى جوار لقائها بكل من العاهل المغربي ووزير خارجيته، لأن الولاياتالمتحدة حريصة أن تكون علاقتها قوية بالعسكر في المنطقة بشكل عام على اعتبار أنهم يلعبون الدور الأساسي في حكم معظم الدول العربية في هذه المرحلة، لكن هذا الإرهاب الذي تعلن الولاياتالمتحدة الحرب عليه منذ سبع سنوات والتي شاركتها هذه الدول فيه لا يحظى لدى الناخب الأمريكي إلا باهتمام ضئيل للغاية، حيث إن 12% فقط من الأمريكيين أعلنوا وفق آخر استطلاع نشر للرأي أنهم سوف يختارون الرئيس بناء على أولوية اهتمامه بالحرب على الإرهاب، بينما أعلنت الأغلبية أن الوضع الاقتصادي هو الأساس في اختيار الرئيس. لقد صنع بوش وإدارته عدوا خارجيا فشلوا في القضاء عليه، بل مارسوا من خلال الحرب عليه إرهابا أسوأ بكثير من أي صورة من صور الإرهاب التي أعلنوا الحرب عليها، وأنفق بوش في حربه الفاشلة على ما يسمى بالإرهاب 850 مليار دولار، وتواجه ميزانيته عجزا يزيد عن 450 مليارا أخرى، ومع ذلك لم يحقق شيئا سوى الفشل، ولأن بوش يواجه فشلا داخليا ذريعا وكراهية حتى من داخل حزبه، فقد فرغ وزيرة خارجية في الأيام الأخيرة لولايته حتى توزع صكوك البراءة والغفران السياسي لكل الأنظمة التي والته ونفذت سياساته الفاشلة، لكن صكوك الغفران هذه لا تعني وقوف الولاياتالمتحدة إلى النهاية إلى جوار هؤلاء، فقد كان برويز مشرف الرئيس الباكستاني من أقوى حلفاء أمريكا في حربها المزعومة على الإرهاب، حتى إن رايس التي توزع صكوك الغفران قالت عنه في العام الماضي «إنه حليف يصعب الاستغناء عنه»، ومع ذلك تم الاستغناء عنه بسهولة قبل أيام وأدارت له أمريكا ظهرها بعدما حاز على حجم هائل من الكراهية من شعبه، حيث لم يشفع له الصك الذي كان قد حاز عليه من قبل، واستحق بجدارة أن يكون إحدى الشخصيات البارزة في مزبلة التاريخ.