في ظل غياب حماسة أوروبية ورفض إسرائيلي وتهديد أمريكي بقطع صنبور المساعدات المادية واستخدام حق «الفيتو»، قدم الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أمس الجمعة بنيويورك، طلب العضوية الكاملة ل«فلسطين» في الأممالمتحدة في محاولة لضمان موقف أقوى للجانب الفلسطيني في المفاوضات وربما الوصول أخيرا إلى حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي دام 63 سنة. في عام 1947، سارعت الولاياتالمتحدة إلى الاعتراف بدولة إسرائيل بعد ساعات من تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة للقرار 181 الذي وافقت بموجبه الجمعية على إقامة دولة إسرائيل، فيما اعترف الاتحاد السوفياتي السابق بالدولة الجديدة خلال أقل من أسبوع. وبعد أكثر من ستين سنة على ذلك يسعى الفلسطينيون اليوم إلى السير في الطريق نفسه للحصول على اعتراف العالم بدولة فلسطينية على حدود سنة 1967 خالية من المستوطنات الإسرائيلية. لكن بالنسبة لأقوى دولة في العالم، أي أمريكا، فإن تقديم عباس لطلب عضوية فلسطين الكاملة في الأممالمتحدة هو تحد لإرادتها كدولة عظمى، وبالنسبة لإسرائيل فإن هذه الخطوة تعتبر تطورا مزعجا سيحد من حريتها في التصرف بالأراضي الواقعة تحت سيطرتها وكذا في شروط تحكمها بالمفاوضات. بل من شأن هذه الخطوة أيضا أن تنهي إفلاتها من العقاب وتضع حدا لاستخدامها المفرط للقوة إذا أصبحت فلسطين عضوا في المحكمة الجنائية الدولية. أما حركة حماس فرفضت توجه القيادة الفلسطينية إلى الأممالمتحدة لسبب آخر وهو كونها تريد الاعتراف بدولة فلسطينية بدون تنازلات. «مسألة الدولة الفلسطينية هي مطلب وحق فلسطيني ونحن لا نقف حجر عثرة أمام إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة على الأرض الفلسطينية، ولكن دون تقديم أي تنازلات عن حقوق وثوابت الشعب الفلسطيني»، أكد رئيس الوزراء الفلسطيني المقال إسماعيل هنية في كلمة له أمام اجتماع المجلس التشريعي في غزة. الأرباح والخسائر من أرباح خطوة التوجه للأمم المتحدة أن فلسطين ستظهر مجددا على خريطة العالم، كما أن هذه الخطوة من شأنها أن تؤدي إلى تحريك المياه الراكدة التي وصلت إليها عملية السلام. تقديم الطلب هذا جاء أيضا في توقيت مناسب، حيث باتت إسرائيل تواجه انتقادات حول معاهدة السلام التي وقعتها مع مصر بعد رد فعل الجماهير المصرية الغاضبة إثر قتل إسرائيل لخمسة جنود مصريين في المنطقة الحدودية، وتصريح رئيس الوزراء المصري، عصام شرف، بأن معاهدة السلام مع مصر ليست مقدسة. إسرائيل أيضا في ورطة بسبب تركيا التي طردت السفير الإسرائيلي من أنقرة لرفضها الاعتذار لتركيا إثر قتلها تسعة أتراك مدنيين السنة الماضية أثناء توجههم إلى قطاع غزة المحاصر ضمن قافلة الحرية، وتهديد أنقرة بأن السفن الحربية التركية ستعمل على حماية «أساطيل الحرية» التي تتوجه إلى قطاع غزة، إلى جانب إيقافها العمل في الممر الذي يربط بين جنوب تركيا وشمال إسرائيل ويضم حزمة أنابيب للبنية التحتية تحمل النفط والغاز والكهرباء والمياه لإسرائيل. كما جاءت الخطوة الفلسطينية في الوقت الذي تؤيد فيه كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا الحرية والديمقراطية اللذين حملتهما ثورات «الربيع العربي»، وهو ما يعني أن وقوف واشنطن ضد حقوق الفلسطينيين يعني بشكل واضح أنها تنتهج سياسة ازدواجية المعايير بحيث إنها تدعم هذه المبادئ والحقوق فقط عندما تحقق مصالحها. ومن بين الأرباح أيضا، حسب المراقبين، كون الفلسطينيين عادوا من جديد ليكونوا هم من يتخذ زمام المبادرة بعد أن كانوا يكتفون بردود الفعل، وأثبت إصرار رئيس السلطة الفلسطينية بأنه يتمتع بثقة كبيرة بنفسه وبشعبه، لأنه حتى لو أعلن عن حل السلطة كأحد البدائل إذا ما فشلت الخطة، فإن إسرائيل وواشنطن ستكونان الخاسر الأكبر، لأن هذا الإلغاء سيؤدي إلى ضياع الأمن، الذي يشكل العصب الأساس في الوضع الراهن بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، إلى جانب ردود الفعل العنيفة المتوقعة التي ستسود الشارع الفلسطيني في حالة رفض الطلب الفلسطيني. أما في ميزان الخسائر، فيبقى أبرزها، إن لم يكن الخسارة الوحيدة هو الدعم المالي الأمريكي الذي سيتوقف وهو ما يعادل نحو 600 مليون دولار سنويا. وقد اعتبرت صحيفة «الأندبندنت» البريطانية أن التصويت على الطلب الفلسطيني في الأممالمتحدة سيحدث انقساما في الغرب بين الأمريكيين والأوروبيين وعدد من الدول الأخرى، وبالمثل بين العرب والأمريكيين، كما سيزيد الصدع داخل الاتحاد الأوروبي بين الأوروبيين الشرقيين والأوروبيين الغربيين، وبين ألمانياوفرنسا «حيث تؤيد الأولى إسرائيل لأسباب تاريخية وتبدي الأخرى ضجرها بسبب معاناة الفلسطينيين». وخلص كاتب المقال المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، روبرت فيسك، إلى أن سلطان أمريكا في منطقة الشرق الأوسط سيتضعضع بسبب إسرائيل وهي «تضحية كبيرة باسم الحرية». حق «الفيتو» حلم الإدارة الأمريكية الآن هو ألا ينال الطلب الفلسطيني التسعة أصوات المطلوبة في مجلس الأمن ليتم قبوله، ما سيجنب الولاياتالمتحدة إحراج استخدام حق ال«الفيتو»، لا سيما بعد خطاب باراك أوباما السنة الماضية الذي أكد أنه يريد أن يشهد انضمام دول فلسطين إلى الأممالمتحدة سنة 2011. إنها مفارقة كبرى، حسب المراقبين، بين أوباما اليوم وأوباما البارحة، لذلك فقد خسرت الولاياتالمتحدة نفوذها في الشرق الأوسط، وتبددت «عملية السلام» و«خريطة الطريق» و«اتفاق أوسلو» وأصبحت سياسة المصالح والكيل بمكيالين التي تنهجها واشنطن واضحة للعيان. أوباما أكد في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الأربعاء الماضي أن لا مجال «للطريق المختصرة» لإنهاء النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في إشارة إلى الطلب الفلسطيني بالحصول على عضوية كاملة في المنظمة الدولية. «قبل عام أعربت من على هذا المنبر عن الأمل بقيام فلسطين مستقلة. كنت ولا زلت أؤمن بهذا الأمر اليوم بأن الفلسطينيين يستحقون الحصول على دولة لهم. إلا أنني قلت أيضا إن السلام الفعلي لا يمكن الوصول إليه إلا بين الإسرائيليين والفلسطينيين أنفسهم»ّ، أضاف أوباما. أوباما الذي يواجه انتقادات داخلية شديدة لكونه «ترك الأمور تصل إلى هذا الطريق المسدود»، تابع قائلا: «بعد سنة، ورغم الجهود المكثفة للولايات المتحدة ودول أخرى فإن الطرفين لم يتمكنا من حل خلافاتهما. أمام هذا المأزق اقترحت قاعدة جديدة للمفاوضات في ماي الماضي». هذه القاعدة الجديدة تقوم على كون حدود الدولة الفلسطينية المقبلة يجب أن تكون على أساس خط وقف إطلاق النار لسنة 1967، مع تبادل للأراضي يتفق عليه الطرفان. إلا أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتانياهو، سارع إلى القول إن هذه الحدود «لا يمكن الدفاع عنها». وفي آخر محاولة له لردع الفلسطينيين يقول: «السلام لا يمكن أن يأتي عبر بيانات وقرارات في الأممالمتحدة، ولو كان الأمر بهذه السهولة لكان أنجز على التو». الداخل الأمريكي يهاجم أوباما شن قادة في الحزب الجمهوري هجوما عنيفا على الرئيس أوباما، ليس لأنه سيستعمل الفيتو، كما هو مؤكد، ولكن لأنه جعل الأمور تصل إلى ما وصلت إليه حتى أعطى الفرصة للفلسطينيين ليطلبوا إعلان دولة مستقلة. وألقى السفير السابق في الأممالمتحدة، جون بولتون، اللوم على أوباما، وقال إن الولاياتالمتحدة لم تفعل المطلوب لتفادي هذه الأزمة قبل أشهر. واقترح بولتون العودة إلى ما حدث سنة 1989، عندما هددت منظمة التحرير الفلسطينية بالذهاب إلى الأممالمتحدة للاعتراف بفلسطين كدولة. وقال بولتون: «هددنا بقطع التمويل لأي منظمة في الأممالمتحدة تؤيد منظمة التحرير الفلسطينية. وفجأة تجمد مسار منظمة التحرير الفلسطينية. وكان هذا نهاية للمحاولات الفلسطينية لمدة 20 سنة. الآن، إذا كان الرئيس أوباما قادرا على القيام بنفس الشيء، فسوف يكون له نفس التأثير». كما حمل ريك بيري، المرشح لتمثيل الحزب الجمهوري في السباق إلى البيت الأبيض بشدة، على سياسة الرئيس الأمريكي في الشرق الأوسط التي وصفها بأنها «ساذجة وخطيرة». وقال حاكم تكساس متوجها إلى ناشطين مؤيدين لإسرائيل في نيويورك: «لما كنا وصلنا إلى هنا، إلى شفير الهاوية. لو لم تكن سياسة أوباما في الشرق الأوسط ساذجة ومتغطرسة ومضللة وخطيرة». وقال إن «سياسة التوازن الأخلاقي التي يتبعها أوباما والتي تعطي أهمية متساوية لمطالب الإسرائيليين والفلسطينيين بمن فيهم مدبرو الإرهاب، إنما تشكل إهانة خطيرة». واتهم بيري في أول خطاب مهم في السياسة الخارجية يلقيه، الرئيس الأمريكي بأنه «عزل (إسرائيل) وفرط بها مما شجع خصومنا في عدائيتهم»، مضيفا: «حان الوقت لتغيير سياستنا المهادنة حيال الفلسطينيين وتوطيد روابطنا بإسرائيل». الخلافات الأوروبية علامة استفهام كبيرة هي عنوان الموقف الأوروبي من تقديم عباس لطلب العضوية الكاملة لفلسطين، حيث يضاعف الاتحاد الأوروبي جهوده للحفاظ على موقف موحد ظاهريا بالرغم من الخلافات الداخلية بخصوص هذا النزاع. أوروبا، التي تعتبر المساهم المالي الأول للسلطة الفلسطينية والشريك التجاري الأول لإسرائيل، ما زال موقفها غامضا بسبب الخلافات القائمة بين أعضائها المؤيدين للإسرائيليين لأسباب تاريخية مثل ألمانيا، وأعضاء آخرين أكثر تأييدا للقضية الفلسطينية مثل فرنسا واسبانيا. وقد قامت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، كاثرين آشتون، بعدة زيارات إلى المنطقة لمحاولة إقناع الفلسطينيين بالعدول عن التوجه إلى مجلس الأمن لتقديم طلب انضمام دولة فلسطين. وتنصح آشتون الفلسطينيين بالتوجه عوضا عن ذلك إلى الجمعية العامة لطلب رفع تمثيلهم إلى مستوى دولة غير عضو، مما يسمح لهم بالانضمام إلى العديد من المنظمات الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية. أما وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ فقال إن الاتحاد الأوروبي قرر عدم إعلان موقفه رسميا حتى يتمكن من ممارسة أقصى حد ممكن من الضغوط من أجل استئناف المفاوضات. وكان وزراء الخارجية الأوروبيون أقروا خلال اجتماع في مطلع شهر شتنبر الجاري في بولندا بالخلافات في وجهات النظر بينهم. وقال دبلوماسيون إن إيطاليا والجمهورية التشيكية وهولندا وبولندا تعارض طلب انضمام فلسطين إلى الأممالمتحدة كما أن ألمانيا قد تعارضه أيضا، فيما تميل معظم الدول الأوروبية الأخرى إلى تأييده. ساركوزي والحل الوسط كحل وسط للخروج من الأزمة التي خلقها طلب السلطة الفلسطينية العضوية الكاملة في الأممالمتحدة، اقترح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن تمنح الأممالمتحدةالفلسطينيين وضع دولة مراقبة كما اقترح جدولا زمنيا مدته عام لعملية السلام في الشرق الأوسط. وحذر ساركوزي في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة من أن استخدام حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن لمنع صدور قرار بقبول عضوية دولة فلسطينية ينطوي على احتمال إثارة موجة جديدة من العنف في الشرق الأوسط. «فلنكف عن مناقشاتنا التي لا نهاية لها بشأن المعايير ولنبدأ التفاوض... وفقا لجدول زمني محدد»، يتابع ساركوزي، مضيفا أن على المفاوضات أن تبدأ خلال شهر و يجب التوصل إلى اتفاق بشأن الحدود والأمن خلال ستة أشهر والوصول إلى اتفاق نهائي خلال سنة من الآن. «اليوم نواجه اختيارا بالغ الصعوبة. كلنا نعلم أن فلسطين لا يمكنها الحصول فورا على الاعتراف الكامل والتام بوضع دولة عضو في الأممالمتحدة»، يؤكد ساركوزي، «لماذا لا نتصور منح فلسطين وضع دولة مراقب في الأممالمتحدة؟ هذا سيكون خطوة مهمة إلى الأمام. والأهم هو أنه سيعني الخروج من حالة الجمود التي لا تفيد إلا المتطرفين. فبذلك سنعيد الأمل من خلال تحقيق تقدم نحو الوضع النهائي». خياران اثنان يمكن للسلطة الفلسطينية التقدم بطلب للحصول على الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة وكاملة العضوية في الأممالمتحدة، ولكن عملية اتخاذ القرار بشأن أي طلب رسمي من المرجح أن تستغرق بعض الوقت. فالأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون سوف، يدرس الطلب أولا ثم يقدمه إلى مجلس الأمن الدولي لاتخاذ قرار. ولكن الولاياتالمتحدة دائمة العضوية في المجلس قالت إنها ستستخدم حق النقض «الفيتو» ضد طلب فلسطيني من هذا القبيل. كما يمكن لدولة أخرى عضو في الأممالمتحدة أن تقدم أيضا طلبا للجمعية العامة لمنح الفلسطينيين، صفة مراقب دائم، كدولة، في الجمعية العامة. أما الصفة الحالية للفلسطينيين في الجمعية العامة فهي صفة مراقب ك «كيان»، وليس دولة غير عضو. ويرجح أن يحصل مثل هذا الطلب على تأييد الأغلبية في الجمعية العامة، ولكن القرار لن يكون ملزما قانونيا. وتمنح صفة المراقب الدائم الوصول إلى هيئات الأممالمتحدة المختلفة. وإذا ما حصل الفلسطينيون على ذلك الوضع، سيصبح لديهم الحق في تقديم شكاوى للمحكمة الجنائية الدولية. سهام إحولين