في تاريخ 27 غشت 2011م، كانت الجالية السورية في مونتريال في كندا على مائدة الإفطار جماعيا، توجت ببرنامج من متحدثين، وفي النهاية بنشيد جميل من حنجرة ذهبية. أما أنا ففوجئت بالحضور يطلب مني الحديث! جمعت أفكاري بسرعة ويمكن أن أختصر النقاط التالية حول الثورة السورية. 1 ما يحدث في سوريا أمر لا يحدث إلا كل ألف سنة مرة (ضربة الميلينيوم Mellinium): ليس ثمة إلا اتجاه واحد بمتابعة الثورة حتى ولادة سوريا الجديدة. ويجب استيعاب أن سوريا تستقل فعليا الآن وعلى نحو يذكر بولادة الأم ونزف الرحم مع انقلاع المشيمة. لكن نظام البعث يبدو أنه لا يريدها ولادة طبيعية بل عملية قيصرية وعملية نازفة جدا، تمنينا ألا تحدث، ولكن التمنيات غير الوقائع، والنظام البعثي يعتبر أنه أخذ السفينة غصبا، وعلى الرجل الصالح مع موسى أن يثقب السفينة كي تعود إلى مساكين يعملون في البحر. كل تقدم هو باتجاه أرض الحرية، وكل نكوص عنه هو عودة إلى العبودية. ظهر هذا واضحا لرسام الكاريكاتور فرزات الذي كسرت يده التي بها يرسم، والجندي المنشق بتعبيرات جلفة: ولا.. تريد أن تتمرد على أسيادك.. سوريا في حالة عبودية، منذ عام 1963 وهي تغرق في هذا المستنقع القذر، فتفقد إنسانيتها كل لحظة. لقد سأل بنو إسرائيل موسى، بعد أن جاوزوا البحر ورأوا قوما يعكفون على أصنامٍ لهم، أن يجعل لهم آلهة كما لهؤلاء آلهة، وأنهم عافوا المن والسلوى واشتهوا من جديد بصل وثوم الفراعنة، فكان جوابه: اِهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم. الحرية لها غذاؤها النقي وماؤها السلسبيل. وهذا يذكرني بفكرة المؤرخ البريطاني توينبي في حديثه عن صدام الحضارات الألفي. نحن هنا أمام ولادة جديدة للأمة. نحن محظوظون أن كنا شهودا على ولادة نادرة. في القرآن حديث عن موت الأمم وهو أمر غريب، فنحن رأينا أو عاصرنا موت الأفراد، أما موت الأمم فهو أمر جديد علينا. نحن هنا مع الثورة السورية أمام ظاهرة ولادة أمة فوجب أن نقرأ ولادة الأمم تماما كما في موت الأمم، تقول الآية: (لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). يمكن الآن مع الثورة تبديل كلمة بكلمة فنقرأ (لكل أمة ولادة، فإذا جاءت هذه اللحظة تشكلت الأمة وانقذفت من رحم الزمن). نحن شهود الميلينيوم الألفية لولادة الأمة السورية من رحم التاريخ. 2 الشعوب تنتصر دوما قصر الطريق أم طال كثرت الضحايا أم قلت: هنا جدل هام حول علاقة الأمم والشعوب بالحكومات.. الحاكم أو السلطة ليست الشمس بل هي القمر الذي يدور حول شمس الأمة. أهمية نظرية كوبرنيكوس في حركة الشمس والقمر لا تؤثر على حياتنا العملية في شيء، فنحن وحضارة المايا والفراعنة ننظر إلى شروق الشمس وغروبها.. لم تتغير، ولكن كوبرنيكوس غيَّر هذه العلاقة، ومعها انقلبت محاور التفكير، أن أهم المسلمات يمكن أن تخطىء. جيلنا انحبس في مربع الزمن، وعائلة الأسد ظنت أنها ملكت الزمن فلا يتغير شيء، وستبقى الأمور كما هي إلى الأبد، كما جاء في شعاراتهم في عبادة الأصنام الحية أنها تبقى إلى الأبد مذكرة بأصنام قوم نوح لا يذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا. حين اندلعت الثورة الفرنسية كانت المفاجأة أكبر من التصور، فقالوا إنها كانت أشبه بالخرفان التي تأكل الأسود، وهو ما أتت به الثورة السورية فقلبت محاور التفكير وأن الثورة أمر ممكن. ولو وضعت الأمة في براد الزمن نصف قرن. 3 ما حدث في سوريا معجزة فاقت كل خيال: جيلنا هو جيل التيه والخوف، فقد وصلنا إلى القناعة التي تقول: لن يتغير شيء، وإن أي تغير هو في حكم المستحيل، وأي اختراق لهذا الحاجز هو رؤية نبوية. في أحسن الأحوال، وضعنا إمكانية التغيير عبر القرن وتدريجيا وجزئيا وخلال عشرات السنوات القادمة هذا للمتفائلين، ويمكن للعالم العربي أن يتحول تدريجيا من النظام الملكي إلى نظام الهبريد الممسوخ بمجالس من القرود البشرية عفوا مجالس الشعب تحسن التصفيق وتغيير الدستور في ربع ساعة، بما يناسب حجم الديناصور الحاكم، بنشوء أنظمة حكم وراثية أمساخ من رحم الجمهوريات، كما حدث في سوريا في ابتداع نظام التوريث، فجاء على سوريا بالكارثة. كانت عملية الدمج بين الملكية والجمهورية أشبه بتجربة مزج جينات الفأر بالإنسان، فالتهمت جينات الفأر جينات الإنسان وانمسخت الإنسانية. نعم، تحولت الجماهير إلى مرتع القرود والخنازير وعبد الطاغوت. ومن رأى كيف كان يصفق مجلس القرود للرئيس المزور وهتافاتهم وقول أحدهم إنه ملك البرية والكرة الأرضية يقول لا فائدة من هذه الأمة فقد تودع منهم! ولكن ما حدث يحكي تلك الشرارة من النور الإلهي في داخل كل منا، ولذا كان الانفجار في سوريا أقرب إلى المعجزة والخيال. 4 النظام بنية موضوعية: ليس بشار الأسد سوى قمة جبل الجليد أو وجه هذه البنية المسخ. كما كانت للكائن معدة ووجه وخرطوم طويل وذنب وثيل وحنجرة وخوار كذلك كان للنظام الأسدي يد يبطش بها ورجل إلى الشر ماض بها. قد يقول قائل: الرئيس لاذنب له إنما الحاشية! النظام هو وحدة موضوعية كما في أي كائن من معدة وفم وأسنان وأنياب ومخالب. أذكر جيدا حين أخرجني رجل المخابرات من كراكون شيخ حسن الذي اعتقلت فيه وكانت الثالثة من الاعتقالات في دولة المماليك البعثية. سألني: ما تقول في مهنتنا نحن رجال المخابرات؟ قلت له: لقد حكم فيكم الرب المتعالي! فوجىء من سرعة جوابي وتحديده. اضطرب قليلا وسأل بدهشة: الله قال فينا قولته؟ أجبت: نعم. قال الرب إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين، وأنت من جنود فرعون! شهق وقال: وماذا تريدني أن أشتغل؟ أجبته: اِذهب إلى سوق الخضر وبيع البصل، فهو أشرف لك من أخذ راتبك على التقارير السرية وجلد الناس. رجال المخابرات هم كلاب جهنم بالتأكيد. يقول النيهوم: هل يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟ حين وقعت حادثة الإفك عمم القرآن الذنب على سلسلة من البشر كما هو في سلسلة الأوامر في الجيش السوري الذي يقتل الناس (Chain of Command)، فقال إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم. والعصابة الأسدية هي حلقة من فوق حلقة، ولكنها مرتبطة بما يعرف من سلسلة الأوامر، فتشمل الخطيئة كل الجهاز، فتلبسه لبوس الإثم ظاهرا وباطنا، بدءا من رأس الهرم وانتهاء بالمجند والشرطي والمفتي والبوطي، فلكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم. كان المجرمون النازيون بعد الحرب يجيبون في التحقيق عن الجرائم التي ارتكبوها بأنهم بريئون وأنهم كانوا ينفذون الأوامر لا أكثر. اليوم، من يطلق النار، ومن يصدر الأوامر، ومن يوقع على البيانات؟ كلهم في الإثم غاطسون إلى قراريط آذانهم بالسحت مع تباين الدرجات. هناك من يقتل بالرصاصة، ومن يقتل بالفتوى، ومن يقتل بشهادة الزور ما يمارسه المفتي ورجل الدين ومثقف السلطة. يتبع...