تنتفض الشعوب العربية حاليا للتخلص من حكامها الذين عاثوا في بلدانهم فسادا واستبدادا، وللتخلص من قبضة الاستعمار الداخلي وفرض إرادتها والتغيير المستحق. ومن المفترض أن تكون جميع الأشياء مختلفة هذه المرة، بالطبع، فالقرار 1973 للأمم المتحدة يعترف بأن «كافة الوسائل الضرورية» اتخذت لحماية المدنيين الليبيين. ولن نستغرب تدخل عسكري أجنبي في ليبيا أو من طرف الجامعة العربية التي لم تقدم شيئا إلى العرب على الإطلاق، في الحرب أو في السلم، منذ نشأتها إلى الآن، تحت ذريعة أن معمر القذافي لا يزال يفكر في تنفيذ مذبحة للمدنيين بعد سقوط طرابلس وملاحقة ومطاردة المتمردين المسلحين «زنقة زنقة». ورفع الغرب شعارات عجفاء تخاف على المدنيين في ليبيا، وكل هذا الكلام ليس أكثر من لغط لأن الغرب نفسه مسؤول عن جرائم عامة أمام البشرية، فهذا الغرب الذي تحلى فجأة بالأخلاق الحميدة هو من ألقى ب50 مليون قنبلة انشطارية محرمة دوليا على العراقيين المدنيين، أي بمعدل قنبلتين لكل عراقي منذ غزوه عام 2002، وتسبب في مقتل أكثر من مليوني عراقي وتشريد 6 ملايين آخرين حسب إحصائيات منظمات حقوق الإنسان، وهو الذي ساند حرب ومجازر إسرائيل مؤخرا على جنوب لبنان وقطاع غزة لقتل المدنيين الأبرياء العزل وإمطارهم بوابل من القنابل الفسفورية المحرمة دوليا، وهو الذي خرق كل المواثيق الدولية في حربه على ما يسمى الإرهاب بقتل الأبرياء بالآلاف في أفغانستان وباكستان وبث الفوضى العارمة إلى درجة تهديد كل المنطقة بالانفجار. لماذا لم تجد صيحات نساء وأطفال ورجال فلسطينوجنوب لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان، الذين كانوا ولا يزالوا يقتلون بالجملة، أي صدى في الضمير الغربي؟ ولماذا ترفض دول حلف شمال الأطلسي وقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض في ليبيا؟ ولماذا ترفض الحكومة البريطانية استبعاد إرسال قوات عسكرية للمشاركة في «عملية الاستقرار» والدفاع عن «شرعية» مستقبل الثورة في ليبيا؟ قبل محاولة فهم موقف الغرب من الثورات العربية، يجب الإجابة عن السؤال التالي: هل يتمتع الغرب بالحق الأخلاقي لكي ينصّب نفسه مدافعا عن حريات الشعوب؟ لا نعتقد أنه من الممكن ائتمان المحتلين واللصوص وقطاع الطرق، الذين أسسوا رخاءهم على موت ومعاناة عشرات الملايين. لعبة شجر الدر لا يحتاج الإنسان العربي إلى أن يرجع إلى الوراء بعيدا في الزمن لفهم الطوفان العربي الذي باتت تتساقط معه اليوم الأنظمة العربية الديكتاتورية كالأسنان النخرة، فالنكبة وهزيمة العرب في فلسطين عام 1948 والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية أرخت بالفعل لبداية مرحلة تاريخية مأساوية للأمة العربية. وسبق هذا الحدث حدث تاريخي آخر لا يقل أهمية عنه، إنه حدث تأسيس الجامعة العربية في باريس يوم 22 مارس 1945 من طرف الاستعمار البريطاني والفرنسي الذي أراد إضعاف وتشتيت الإمبراطورية العثمانية. ثم ظهرت في الوجود، بشكل متسارع وبرعاية بريطانية وفرنسية دائما، أحزاب عربية (حزب البعث العربي الاشتراكي) وقومية (الناصرية) قالوا لنا إن الهدف منها بناء مستقبل «الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة». لكن الغرض من هذه الأحزاب كان إقصاء الدين الإسلامي وإبعاده عن معترك الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والتشريعية للقضاء على ما تبقى من الإمبراطورية الإسلامية حتى يتسنى تحقيق الأحلام الاستعمارية التوسعية في منطقة الشرق الأوسط وبناء علاقات أسُسها النهب والهيمنة وتسخير الأمم العربية لخدمة مصالحها، فحزب البعث العربي الاشتراكي والقومية العربية خرجا من أحشاء أوربا الفاشية والنازية، وأنظمة الحزب الواحد والحاكم الأوحد التي خلقها الاستعمار حولت شعوبنا إلى أسرى وأوطاننا إلى سجون. وتسببت هذه الأحزاب، التي تم نشرها في كل الأقطار العربية، في التخلف والتبعية والذل وفتح فوهات الجحيم على كل العرب منذ مجيء جمال عبد الناصر إلى الحكم. فمنذ الخمسينيات، على الأقل، والغرب يدعم ويساند ويمول ويسلح حكم الحكام العرب الديكتاتوريين الذين حكموا بأسلوب همجي وفوضوي وبدائي وفريد في استعمال سيادة العنف واستباحة الدماء وتحويل العالم العربي، الذي كان قاعدة مهمة للتطور الحضاري، إلى فضاء للقضاء على كل العقول العربية. ولترويض الشعب وامتلاكه، نصح الغرب سلاطين العرب بأن يحرموا الشعب من حق الديمقراطية وأن يرفعوا عنه كل طموحاته الدستورية وأن يصادروا كل حرياته الشخصية والفكرية والسياسية بدرجة صارمة لصالح المعلم والقائد والزعيم والإله-الصنم الذي يملك الأرض وما عليها ولا توجد إرادة خارج إرادته. إنها عقلية الحزب الواحد التي اعتدت على دساتير البلاد وجلبت الخراب والدمار إلى أوربا ولم يسلم منها العالم العربي وكانت النتيجة مئات الآلاف من القتلى والمعتقلين والمخطوفين والمعذبين والمبعدين والتسلط الفردي على الشعب والأرض والثروات.. إنه نظام يعتمد على غياب القانون واحتكار السلطة من طرف شخص واحد لتحديد مستقبل بلد وشعب بأكمله. وها هو الغرب الاستعماري يزورنا مرة ثانية متسترا بالحق الإنساني، مدعيا أنه يملك كل المؤهلات والشروط الضرورية لوضع الحلول لمشاكلنا.. إنها لعبة شجر الدر ليبقى جزءا لا يتجزأ من كل الأزمات العربية وليس جزءا من الحلول لها، فالمؤكد أنه لم يأت ليخلصنا من براثن الديكتاتورية العربية بل جاء كضمان لاستباق تحقيق تطلعات الشعوب العربية إلى الحرية والعيش الكريم وليحافظ على النظام الشمولي القمعي والاستبداد السياسي العربي ليمارس السيطرة الكاملة على حياتنا كما من قبل، فالولاياتالمتحدةالأمريكية والقوى الاستعمارية السابقة، ولاسيما فرنسا وبريطانيا، تعي جيدا أنها فقدت شرعيتها على الأرض العربية، وكان لا بد من العثور على فرصة ثمينة في الثورة الليبية، التي تجلس على أكبر احتياطيات نفطية في إفريقيا، لفرض وجودها في قلب هذه العملية وفرض ديمقراطية من النوع التي فرضت على العراق وأفغانستان حتى لا يكون تحرر على الإطلاق. كما أن هذه القوى تتوقع عائدات الفوائد لاستثماراتها العريضة المترابطة في الحرب الليبية: في مجال النفط والصفقات التجارية والدعم السياسي، وربما حتى عودة القواعد العسكرية الغربية تماما كما حصل مع العراق وأفغانستان! فحرص القوى الإمبريالية على بقاء آلة الاستبداد العربية ضمانة مريحة لها، يبرر بها الحكام العرب أفعالهم الفوضوية والقومية والفاشية التي تقوم جميعا على فلسفة العدمية التي ترفض الأخلاق. ومنذ اشتعال الثورة في تونس زين العابدين بن علي، الديكتاتور المدعوم من الغرب، وانتقال شرارة الاحتجاج إلى البقع العربية الأخرى، كمصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا ولاحقا الجزائر، التي ستشتعل فيها الثورة في غضون أسبوعين أو ثلاثة لا أكثر، تحرك الغرب على محاور ثلاثة لاحتواء الثورات العربية ووضعها تحت السيطرة: في مصر تدفقت الأموال الأمريكية والسعودية لوأد الثورة، وفي البحرين أُعطي الضوء الأخضر لدول الخليج لسحق الانتفاضة بالقوة، وفي ليبيا تحاول القوى الغربية الاستعمارية خطف الثورة بدعم الثوار، في حين توجه الدعم السري إلى نظام بشار الأسد في سوريا وعلي عبد الله صالح في اليمن لقمع المعارضة بوحشية لا يحتمل الإنسان معها أن يقف صامتا. لقد ضحك علينا الغرب نحن العرب أكثر من نصف قرن واعتبرنا قاصرين عقليا، وها هو اليوم يتدخل في شؤون ليبيا الداخلية ليشكل تهديدا لكل الثورات العربية، وإن كنا نعتقد أن القوى التي كانت مهمشة في المنطقة تمتلك الخيوط السياسية وأعلى درجات التفكير الإنساني والقدرة على التغيير لتفرض إرادتها التي لا يمكن أن تتراجع إلى الوراء بهذه السهولة، فالذين قاتلوا وحاربوا جحيم نظام القذافي على مر أربعة عقود لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام خارطة الاستعمار الجديدة المعدة سلفا من طرف حلف شمال الأطلسي وسيقاومون وسيُفشلون في النهاية هذا المخطط الإمبريالي ليتمكنوا بحق من السيطرة على بلدهم بإلغاء علة نظام حكم الاستبداد الشمولي وإرساء نظم العدالة الاجتماعية لخلق «إنسان عربي جديد». ماجستير في الدراسات الدولية-جامعة أوهايو-الولاياتالمتحدة الأمريكية