جاء في «الأغاني» أن زوجة الوليد بن عبد الملك، أم البنين، أقامت صلة عشق مع عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني (الذي لُقِّب ب«وضاح اليمن»، لوسامته)، وكانت ترسل إليه فيدخل إلى مخدعها، ثم تخبئه في صندوق وتقفل عليه إذا داهمها زائر، حتى اكتشف أمرها خادم فوشى بها إلى الخليفة. ولقد سارع الوليد فدخل على أم البنين في مخدعها، وتعمد الجلوس على الصندوق الذي وصفه الخادم، ثم قال: يا أم البنين هبي لي صندوقا من هذه الصناديق، فقالت: كلها لك يا أمير المؤمنين، قال ما أريدها كلها وإنما أريد هذا الذي أجلس عليه، فقالت: فيه أشياء من أمور النساء، فقال: ما أريد غيره، فقالت: خذه يا أمير المؤمنين. وهكذا، دعا الوليد أن يُحمل الصندوق إلى مجلسه، فأزاح البساط، وأمر عبيده أن يحفروا حفرة عميقة، ثم خاطب الصندوق، قائلا: يا هذا، إنه قد بلغنا شيء إنْ كان حقا فقد كفناك ودفنا ذكرك وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر، وإنْ كان باطلا فإنا دفنا الخشب وما أهون ذلك! ثم قذف بالصندوق في الحفرة، وهيل عليه التراب. صاحب «الأغاني»، أبو الفرج الأصفهاني، لا يؤكد وجود وضاح في الصندوق تلك الساعة ولا ينفيه، لكن الخليفة ارتاح، وأم البنين نجت من الفضيحة، وما وقعت عين على وضاح اليمن بعدئذ. وأعترف بأنني لا أستطيع مقاومة إغراء استدعاء هذه الحكاية كلما بلغني جديد فاضح من يفغيني ماكسيموفتش بريماكوف، رئيس وزراء روسيا الأسبق ووزير خارجيتها الأسبق والمرشح الرئاسي في انتخابات 2000. العنصر الذي يستدعي الحكاية هو «المعرفة المعمقة» التي يزعم بريماكوف امتلاكها عن الشرق الأوسط، شعوبا وأنظمة، «الدفينة» في صناديق خشبية مغلقة لا تنفتح على احتمال واحد، بل تتخذ صيغتين متناقضتين في الظاهر، يتبين فيما بعد أنهما على درجة عالية من التكامل في الباطن. ففي الصيغة الأولى، كان ذلك الصحافي الشاب مجرد مراسل لإذاعة موسكو وصحيفة ال»برافدا» في الشرق الأوسط، يتجول في بيروت ودمشق وعمان والقاهرة وبغداد، خلال عقد الستينيات وحتى مطلع السبعينيات. ولقد صار مقربا من القيادات التقليدية في الأحزاب الشيوعية العربية، وأخذ يطرح على أمثال خالد بكداش وفهمي السلفيتي وعزيز محمد أسئلة مربكة حول العلاقة بين القومية والاشتراكية، وضرورة الاعتراف بحدود 1967 وليس 1948 في رسم الخريطة الفلسطينية، والموقف من القيادات والكوادر المجدِّدة أو، في التوصيفات السوفياتية القدحية: «الانشقاقية» أو «التحريفية» أو «اليسراوية» أمثال رياض الترك وإلياس مرقص وياسين الحافظ، لكي نقتبس أسماء من الحزب الشيوعي السوري التاريخي وحده. وأما في الصيغة الأخرى، الباطنية، فقد كان بريماكوف الوجه العلني لشخصية «مكسيم»، الاسم المستعار لرجل الاستخبارات السوفياتية الأبرز في المنطقة، كما اتضح سنة 2000 من كشوفات المجلد الضخم «أرشيف متروخين: ال KGBفي أوربا والغرب». بيد أن مآلات بريماكوف الراهنة، السياسية والفكرية، تؤكد أن الرجل يعيش أطوار صيغة جديدة، لم يعد فيها مكترثا حتى للحفاظ على ذلك التوازن الخفي بين الظاهر والباطن. وأحدث الأمثلة هي تنظيراته الراهنة للانتفاضات العربية، حيث يبدو تفكيره مطابقا لذلك التشبيح الاستشراقي الذي يمارسه رهط الذين يعتبرون أنفسهم «خبراء شرق أوسطيين»، من أمثال باتريك سيل وجوشوا لانديس وفلنت ليفريت. وفي حديث مع مجلة «دير شبيغيل» الألمانية، نُشر قبل أيام، اعتبر بريماكوف أن روسيا تعرف خفايا الشرق الأوسط أكثر من أية دولة أخرى في الغرب، ولهذا فإن وقوفها مع نظامَيْ معمر القذافي وبشار الأسد ليس نابعا من المصالح بل من القراءة الصائبة لحقائق التاريخ، من جهة، ولأن هذه «التحركات الشعبية»، التي يشهدها العالم العربي، لن تسفر عن أنظمة ديمقراطية، بل ستعيد إنتاج الأنظمة الأوتوقراطية ذاتها، من جهة ثانية. وكان المرء سيعتبر الكلام رأيا، هزيلا بالطبع وركيكا وخاطئا، لولا جرعة التشبيح التالية التي يضيفها بريماكوف: هل تمكنت قناة «الجزيرة» من تصوير معمر القذافي وهو يرتكب المجازر؟ هل يضمن أحد أن المعارضة السورية لا يسيطر عليها الإخوان المسلمون؟ وهل يملك الغرب إحصائيات دقيقة عن نسبة الديمقراطيين والعلمانيين، بالمقارنة مع الإسلاميين والأصوليين، داخل صفوف المعارضات العربية؟ وتسأله «دير شبيغل»، أما يزال مؤمنا بتصريحه، سنة 2007، بأن بشار الأسد «رجل رؤيا استراتيجية عميقة» فلا يجيب مباشرة، ويراوغ قليلا، قبل أن يحيل الإجابة على كلمة حق يُراد بها باطل: الغرب ليس مهتما بالديمقراطية في سورية. والإنصاف يقتضي التذكير بأن بريماكوف كان قد أعطى تصريحه ذاك لوكالة الأنباء السورية الرسمية، سانا، وقال بالحرف إن الأسد «شخصية سياسية بارزة، وصاحب رؤيا استراتيجية عميقة في التعامل مع قضايا المنطقة والعلاقات الدولية»! وبوصفه أحد آخر المتبقين من رجالات تلك «المعرفة» السوفياتية البائدة، التي كانت على نحو ما خبيئة الصناديق الخشبية، قبل انقلابها إلى تشبيح سياسي وفكري ملحق بمؤسسات المافيا الروسية وأنظمة الاستبداد العربية، فإن إرث بريماكوف تصح فيه حكمة الوليد بن عبد الملك: إنْ كان باطلا، وهكذا كان بالفعل، فإن الخشب هو الذي يُدفَن اليوم... وما أهون ذلك!