قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... وعن حماد الراوية قال: كنت محبا للوليد بن عبد الملك، فلما ولي أخوه يزيد الخلافة هربت إلى الكوفة، فبينما أنا في المسجد الأعظم، إذ أتاني رسول محمد بن يوسف الثقفي وقال: «أجب الأمير»، فدخلت عليه، فقال: ورد كتاب أمير المؤمنين علي بحملك إليه، وبالباب نجيبان، فاركب أحدهما، ودفع إلي كيسا فيه ألف دينار، وقال: «هذه نفقة لمنزلك»، فدخلت دمشق في اليوم الثامن واستأذن لي الرسول فدخلت عليه، فإذا هو جالس في دار مبلطة بالرخام الأحمر، وفيها سرادق خز أحمر في وسط قبة حمراء من خز، وفرشها وكل ما فيها أحمر، وعلى رأسه جاريتان تسقيانه خمرا، فلما واجهته سلمت عليه بالخلافة فرد علي السلام، وقال: «ادن يا حماد: أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: «لا يا أمير المؤمنين». قال: «في بيت شعر ذهب عني أوله». قلت: «من أي عروض أو قافية؟» قال: «لا أدري إلا أنه بيت فيه إبريق». فقلت في نفسي: إن لم تغن الرواية يوما، فالآن. ففكرت في نفسي ساعة، ثم قلت: نعم يا أمير المؤمنين، لعله قول التبع اليماني، أو عدي بن زيد العبادي: بكر العاذلون في وضح الصبح/يقولون لي: أما تستفيق، ودعوا بالصبوح يوما فجاءت/ قينة في يمينها إبريق، فصاح يزيد وقال «سل حاجتك» فقلت: «إحدى هاتين الجاريتين». فقال: «هما لك بمالهما وما عليهما، ومائة ألف تحسن بها سيرك». الذكاء والفهم ومما جاء في الذكاء والفهم ما حكي عن المأمون أنه غضب على عبد الله بن طاهر، وشاور أصحابه في الإيقاع به، وكان قد حضر في ذلك المجلس فكتب إليه كتابا فيه: « بسم االله الرحمن الرحيم، يا موسى ». فلما فضه ووجد ذلك تعجب وجعل يطيل النظر إليه ولا يفهم معناه، وكانت له جارية واقفة على رأسه فقالت له: يا سيدي، إني أفهم معنى هذا. فقال: وما هو؟ قالت: إنه أراد قوله تعالى: «يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك». وكان قد عزم على الحضور إلى المأمون، فثنى العزم عن ذلك واعتذر للمأمون في عدم الحضور فكان سبب سلامته. وأحسن من ذلك ما ذكره ابن خلكان قال: إن المأمون غضب على بعض عماله فأمر وزيره أن يكتب له كتابا يشخصه به، وكان للوزير بالعامل عناية، فكتب إليه كتابا وكتب في آخره، إن شاء الله تعالى. وجعل في صدر النون شدة. فعجب العامل كيف وقعت هذه الحركة من الوزير إذ من عادة الكتاب ألا يشكلوا كتبهم، ففكر في ذلك فظهر له أنه أراد: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك. فكشط الشدة وجعل مكانها ألفا وختم الكتاب وأعاده. فلما وقف عليه الوزير سر بذلك وفهم أنه أراد: «إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها». حكاية الهامة روى أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود قال: كنت عند كعب الأحبار، وهو عند عمر بن الخطاب، فقال كعب الأحبار: يا أمير المؤمنين ألا أخبرك بأغرب شيء رأيته في كتب الأنبياء؟ إن هامة، وهي طائر مائي، جاءت إلى سليمان بن داود عليهما السلام فقالت: السلام عليك يا نبي الله. فقال: وعليك السلام يا هامة، أخبريني كيف لا تأكلين من الزرع؟ قالت: يا نبي الله، إن آدم أخرج من الجنة بسببه. قال: فكيف لا تشربين الماء؟ قالت: لأنه غرق فيه قوم نوح، فمن أجل ذلك لا أشربه. فقال لها: كيف تركت العمران وسكنت الخراب؟ قالت: لأن الخراب ميراث االله تعالى، فأنا أسكن ميراث الله تعالى. قال الله تعالى: «وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين». فالدنيا ميراث الله كلها. قال سليمان: فما تقولين إذا جلست فوق خربة؟ قالت: أقول أين الذين كانوا يتنعمون فيها. قال سليمان: فما صياحك في الدور إذا مررت عليها؟ قالت: أقول وي لبني آدم كيف ينامون وأمامهم كل الشدائد؟ قال سليمان عليه السلام: فما لك لا تخرجين بالنهار؟ قالت: من ظلم بني آدم لأنفسهم. قال: فأخبريني ما تقولين في صياحك؟ قالت: أقول تزودوا يا غافلون و هيئوا لسفركم، سبحان خالق النور. فقال سليمان: ليس في الطيور طير أنصح لابن آدم ولا أشفق عليه من الهامة، وما في قلوب الجهال أبغض منها، والهامة بتخفيف الميم، على المشهور طير الماء. الحاكم بأمر الله وصاحب البستان حكى القاضي شهاب الدين فضل الله في كتابه «مسالك الأنصار في ممالك الأمصار»، في ترجمة الحاكم بأمر الله أبي علي منصور، قال: بينما هو في موكبه قبلي بركة الحبش، إذ مر برجل على بستان له وحوله عبيده، فاستسقاه ماء فسقاه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، قد أطمعتني في السؤال، فإن رأى أمير المؤمنين أن يكرمني بنزوله لأحظى بتمام السعد؟ فأجابه لذلك ونزل بجيشه، فأخرج الرجل مائة بساط ومائة نطع ومائة وسادة ومائة طبق فاكهة ومائة جام حلوى ومائة زبدية سكرية، فبهت الحاكم وقال: أيها الرجل، خبرك عجيب، هل علمت بنا فأعددت هذا؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، وإنما أنا تاجر من رعيتك لي مائة محظية، فلما أكرمتني بالنزول عندي أخذت من كل واحدة شيئا من فرشها وزائد أكلها وشربها فإن لكل واحدة في كل يوم طبق طعام وطبق فاكهة وجام حلوى وزبدية شراب. فسجد أمير المؤمنين شكرا لله تعالى وقال: الحمد لله الذي جعل في رعايانا من يسع حاله هذا، ثم أمر له بما في بيت المال من الدراهم المضروبة في تلك السنة، فكانت ثلاثة آلاف ألف وسبعمائة ألف، ولم يركب حتى أحضرها وأعطاها للرجل وقال له: استعن، بهذا على حالك ومروءتك، ثم ركب وانصرف. . الرشيد في منزل إبراهيم الموصلي وحكى مسرور الخادم أن الرشيد قصد الركوب في غير عادته، فقلت له: أين تريد يا أمير المؤمنين في هذا لوقت؟ قال: إلى منزل إبراهيم الموصلي. قال: فمضى حتى انتهى إلى منزل إبراهيم الموصلي، فخرج وتلقاه وسلم عليه، وقال: يا أمير المؤمنين في مثل هذه الساعة تظهر؟ قال: نعم، شوق طرق بي إليك. ثم نزل وجلس في طرف الإيوان وأجلس إبراهيم، فقال له إبراهيم: يا سيدي استنبطنا شيئا نأكله قبل الشراب. قال: نعم. فجاء بمطعوم كأنما كان معدا له، فأصاب منه يسيرا، ثم دعا بشراب حمل معه، فقال له الموصلي: يا سيدي أغنيك أم تغنيك إماؤك؟ قال: بل الجواري. فخرجت جواري إبراهيم فأخذن صدر الإيوان وجانبيه، فقال إبراهيم: أيضربن كلهن أم واحدة واحدة؟ فقال: بل يضربن اثنتان اثنتان، وواحدة واحدة تغني. قال: فضربن اثنتان وغنت واحدة منهن، فقام حتى وصل إلى صدر الإيوان، وأخذ بجانبيه والرشيد يسمع ولا ينصت لشيء من غنائهن، إلى أن غنته صبية من صدر الإيوان من حاشية الصفة هذين البيتين لأبي نواس: يا موري الزند قد أعيت قوادحه/ أقبس بما شئت من قلبي بمقباس، ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم/ إذا نظرت فلم أنظرك في الناس، فطرب الرشيد لغنائهما واستعاد الصوت مرارا وشرب أرطالا، وسأل الجارية عن صانع هذا الشعر، فأمسكت، فأقبلت بين يديه، فأخبرته بشيء أسرته إليه، فدعا بحماره فركبه، ثم التفت إلى إبراهيم الموصلي، فقال له: ما ضرك أن تكون خليفة، فبدا عليه الغضب الشديد. وكادت روح الموصلي تخرج حتى دعاه بعد ذلك وأدناه. قال: وكان الذي أخبرته به سرا أن الشعر لأخت هارون علية بنت المهدي، وكانت الجارية لها.