قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... حُكِي أن الهادي ابتُلي بمحبة جارية تسمى «غادرة»، وكانت من أحسن النساء وجها وأطيبهم غناء، اشتراها بعشرة آلاف دينار، فبينما هو يشرب مع ندمائه، إذ فكر ساعة وتغير لونه وقطع الشراب، فقيل له: «ما بال أمير المؤمنين؟»، قال: «وقع في قلبي أني أموت وأن أخي هارون يلي الخلافة ويتزوج «غادرة»، فامضوا وأتوني برأسه». ثم رجع عن ذلك وأمر بإحضاره، وحكى له ما خطر بباله، فجعل هارون يترفق به، فقال: «لا أرضى حتى تحلف علي بكل ما أحلفك به، أني إذا مت لا تتزوج»، فرضي بذلك وحلف أيمانا عظيمة، ودخل إلى الجارية وحلفها أيضا على مثل ذلك، فلم يلبث، بعد ذلك سوى شهر ومات، وولي الخلافة هارون الرشيد... ليلة عظيمة بويع لهارون الرشيد بالخلافة في الليلة التي توفي فيها أخوه وولد في تلك الليلة المأمون، وكانت ليلة عظيمة لم يُرَ مثلها في بني العباس: مات فيها خليفة وولي فيها خليفة وولد فيها خليفة... أعرابي يزاحم الرشيد يروى أنه لما دخل هارون الرشيد إلى مكة، شرفها الله تعالى، وشرع في الطواف، منع الخاص والعام من ذلك، لينفرد بالطواف. فسبقه أعرابي، فشق ذلك على الرشيد، فالتفت إلى حاجبه منكرا عليه، فقال الحاجب للأعرابي: «تخل عن الطواف، حتى يطوف أمير المؤمنين». فقال الأعرابي: «إن الله قد ساوى بين الإمام والرعية في هذا المقام»، فلما سمع الرشيد من الأعرابي ذلك، راعه أمره فأمر حاجبة بالكف عنه، ثم جاء الرشيد إلى الحجر الأسود ليستلمه، فسبقه الأعرابي فاستلمه، ثم أتى الرشيد إلى المقام ليصلي، فسبقه الأعرابي فصلى فيه، فلما فرغ الرشيد من صلاته قال لحاجبه: «ائتني بالأعرابي»، فأتاه الحاجب، فقال: «أجب أمير المؤمنين»، فقال: «ما لي إليه من حاجة، إن كان له حاجة فهو أحق بالقيام والسعي إلي». فقام الرشيد، حتى وقف بإزاء الأعرابي وسلم عليه، فرد عليه السلام، فقال له الرشيد: «يا أخا العرب، اجلس هنا بأمرك». فقال الأعرابي: «ليس البيت بيتي ولا الحرم حرمي وكلنا فيه سواء، فإن شئت تجلس، وإن شئت تنصرف»، فعظم ذلك على الرشيد وسمع ما لم يكن في ذهنه، وما ظن أنه يواجهه بمثل هذا الكلام. فجلس الرشيد وقال: «يا أعرابي، أريد أن أسألك عن فرضك، فإن أنت قمت به فأنت بغيره أقْوَم، وإن أنت عجزت عنه فأنت عن غيره أعجَز»، فقال الأعرابي: «سؤالك هذا سؤال تعلُّم أم سؤال تعنُّت؟»، فتعجب الرشيد من سرعة جوابه وقال: «بل سؤال تعلُّم». فقال له الأعرابي: «قم فاجلس مقام السائل من المسؤول»... قال: فقام الرشيد وجثا على ركبتيه بين يدي الأعرابي، فقال: «قد جلست، فاسأل عما بدا لك»، فقال له: «أخبرني عما افترض الله عليك؟»، فقال له: «تسألني عن أي فرض، عن فرض واحد، أم عن خمسة، أم عن سبعة عشر، أم عن أربعة وثلاثين، أم عن خمسة وثمانين، أم عن واحدة في طول العمر، أم عن واحدة في أربعين، أم عن خمسة من مائتين»... قال: فضحك الرشيد حتى استلقى على قفاه، استهزاء به، ثم قال: له: «سألتك عن فرضك فأتيتني بحساب الدهر؟».. قال: «يا هارون، لولا أن الدين بالحساب لما أخذ الله الخلائق بالحساب يوم القيامة، فقال تعالى: «ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين». فظهر الغضب في وجه الرشيد واحمرّت عيناه حين قال: يا هارون، ولم يقل له: يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: «يا أعرابي، إن فسرت ما قلت نجوت، وإلا أمرت بضرب عنقك بين الصفا والمروة»... فقال له الحاجب: «يا أمير المؤمنين، اعفُ عنه وهبه لله تعالى ولهذا المقام الشريف؟» فضحك الأعرابي من قولهما حتى استلقى على قفاه، فقال: «مم تضحك؟» قال: «عجبا منكما، إذ لا أدري أيكما أجهل الذي يستوهب أجلا قد حضر أم من يستعجل أجلا لم يحضر؟».. فهال الرشيدَ ما سمعه منه وهانت نفسه عليه، ثم قال الأعرابي: «أما سؤالك عما افترض الله علي، فقد افترض علي فرائض كثيرة، فقولي لك عن فرض واحد: فهو دين الإسلام، وأما قولي لك عن خمسة: فهي الصلوات، وأما قولي لك عن سبعة عشرة: فهي سبعة عشرة ركعة، وأما قولي لك عن أربعة وثلاثين: فهي السجدات، وأما قولي لك عن خمسة وثمانين: فهي التكبيرات، وأما قولي لك عن واحدة في طول العمر: فهي حجة الإسلام: واحدة في طول العمر كله، وأما قولي لك واحدة في أربعين: فهي زكاة الشياه، شاة من أربعين، وأما قولي لك خمس من مائتين: فهي زكاة الورق»!... امتلأ الرشيد فرحا وسرورا من تفسير هذه المسائل، ومن حسن كلام الأعرابي وعظُم الأعرابي في عينه وتبدل بغضه محبة، فاغتبط الرشيد وفرح به واشتد إعجابه، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، فلما حضرت قال: «لا حاجة لي بها، رُدَّها إلى أصحابها»، فقال له: «أريد أن أجري لك جراية تكفيك مدة حياتك؟»، قال: «الذي أجرى عليك يجري علي». فتأوه الرشيد وسأله عن أهله وبلاده، فأخبره أنه موسى الرضي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضى الله عنهم أجمعين، وكان يتزيى بزي أعرابي، زهدا في الدنيا وتباعدا عنها، فقام إليه الرشيد وقبل ما بين عينيه، ثم قرأ: «الله أعلم حيث يجعل رسالته»...