قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... قال التوحيدي رأيت شيخا من أهل خراسان، ذكر لي أنه من أهل سنجان، واقفا خلف الجمال يسوقها ويحفظ الرحال التي عليها، حتى نظر إلى الجانب الغربي، فرأى جذع شجرة عليه ابن بقية -وكان وزير وصلبه الخليفة لذنوب كانت له- فقال: «ما أعجب أمور الدنيا وما أقل المفكر في عِبَرها، عضد الدولة تحت الأرض وعدوه فوق الأرض» .. فقال التوحيدي: «لذلك استأذنت في دفنه، وكان كلم الشيخ سببا في ذلك»... عضد الدولة والأعربي الفضولي نظر طفيلي إلى قوم ذاهبين فلم يشك في أنهم في دعوة ذاهبون إلى وليمة، فتبعهم، فإذا هم شعراء قصدوا السلطان بمدائح لهم، فلما أنشد كل واحد شعره ولم يبق إلا الطفيلي، وهو جالس ساكت، فقال له عضد الدولة: «أنشد شعرك»، فقال: «لست بشاعر»، قال: «فمن أنت؟». قال من الغاوين الذين قال الله فيهم: «والشعراء يتبعهم الغاوون»، فضحك السلطان وأمر له بجائزة الشعر...
الإخشيد وشيخ المقامرين أمر الإخشيد بهدم المواخير ودور المقامرين والقبض عليهم. وأُدخِل عليه جماعة من المقامرين وعُرضوا عليه، وفيهم شيخ حسَن الهيئة. فقال الإخشيد: «وهذا الشيخ مقامر؟!» فقالوا له: «هذا يُقال له «المُطَمِّع». فقال الإخشيد:«وما المُطَمِّع؟» قالوا: «هو سبب رواج حال دار القمار، وذلك أن المقامر إذا خسر ما معه من مال، قال له المُطَمِّع: «العب على ردائك فلعلك تغلب»، فإذا ذهب رداؤه قال له: «العب على قميصك حتى تغلب به»، وهكذا حتى يبلغ نعليه، بل وربما أقرضه مالاً حتى يخسره.. ولهذا الشيخ من صاحب دار القمار جراية يأخذها كل يوم لقاء صنعه هذا». فضحك الإخشيد وقال: «يا شيخ، تُب إلى الله من هذا». فتاب الرجل، فأمر له الإخشيد بثوب ورداء وألف درهم وقال: «يُجْرَى عليه في كل شهر عشرة دنانير». فدعا له الشيخ وشكره وخرج، فقال الإخشيد: «رُدُّوه!» فلما لحقوا به وردُّوه قال الإخشيد: «خذوا منه ما أعطيناه وأبطحوه واضربوه ستمائة جلدة!».. ثم قال للشيخ: «تطميعنا خير أم تطميعك؟»... مكانة العلماء عند أمراء الأندلس قال أبو القاسم بن مفرِّج: «كنت في بعض الأيام عند الفقيه أبي إبراهيم في مجلسه في المسجد في قرطبة، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة، إذ دخل عليه غلام من أصحاب الرسائل جاء من عند الخليفة الحكم بن الناصر. فوقف وسلم وقال له: »أجب أمير المؤمنين، فهو قاعد ينتظرك، وقد أُمرتُ بإعجالك فالله الله». فقال أبو إبراهيم: «سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين، ولا عجلة، فارجع إليه وعرِّفه أنك وجدتني مع طلاب العلم، وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس فأمضي إليه». فانصرف الخصيّ وهو يتمتم، متضاجراً بكلام لم نسمعه. فما مضت ساعة حتى رأيناه قد عاد فقال للفقيه: «أنهيتُ قولك إلى أمير المؤمنين، وهو يقول لك: «جازاك الله خيرًا عن الدين وجماعة المسلمين وأمتعهم بك، وإذا أنت فرغتَ فامض إليه»، قال أبو إبراهيم: «حسن، ولكني أَضعفُ عن المشي إلى باب السدّة ويصعب عليّ ركوب دابة، لشيخوختي وضعف أعضائي، وبابُ الصناعة هو من بين أبواب القصر أقربها من مكاننا هذا، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بفتحه لأدخل منه هوّن عليّ المشي». فمضى الفتى ثم رجع بعد حين وقال: »قد أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت وأمر بفتح باب الصناعة وأمرني بأن أبقى معك حتى ينقضي الدرس وتمضي معي». وجلس الخصي جانباً، حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه بأكمل ما جرت به عادته، ودون قلق. فلما انفضضنا عنه قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مضى إلى الخليفة الحكم. قال ابن مفرّج: «ولقد تعمدنا، إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم، المرور بباب الصناعة فوجدناه مفتوحاً وقد حفه الخدم والأعوان، متأهبين لاستقبال أبي إبراهيم، فاشتدّ عجبنا لذلك وقلنا: «هكذا يكون العلماء مع الملوك والملوك مع العلماء»... طرائف الأعشى في جلسات الأمراء لبس الأعشى، مرة، فرواً مقلوباً، فقال له أحد جلساء عضد الدولة: «يا أبا محمد، لو لبستها وصوفها إلى داخل كان أدفأ لك». قال: «كنت أشرت على الكبش بهذه المشورة»... وعن ابن إدريس قال: «قال لي الأعمش أما تعجب من عبد الملك بن أبجر»، قال: «جاءني رجل فقال: إني لم أمرض وأنا أشتهي أن أمرض»، قال: فقلت: «احمد الله على العافية»، قال: «أنا أشتهي أن أمرض». قال: «كل سمكاً مالحاً واشرب نبيذاً مريساً واقعد في الشمس»، فمرض الرجل، فقال له الأعشى: «إياك أن تطلب مني طريق الشفاء». وقال عيسى بن يونس: «أتى الأعمش أضياف فأخرج إليهم رغيفين فأكلوهما وطلبوا المزيد، فدخل فأخرج لهم نصف حبل قتّ (القتّ: علف البهائم)، فوضعه على الخوان وقال: «أكلتم قوت عيالي فهذا قوت شاتي فكلوه»... الأمير الأندلسي واللصوصية محمد بن إسماعيل الخزرجي، المتوفى سنة 763، استولى مدة قصيرة على السلطنة في الأندلس، كان لئيم الخلق، سيءَ السيرة. ومن عجائب ما يحكى عنه، وهو سلطان، أن امرأة رفعت إليه أن دارها سرقت، فقال: «إن كان ذلك ليلاً بعدما أُقفِل باب الحمراء عليّ وعلى حاشيتي فهي، والله، كاذبة، إذ لم يبق هناك سارق».