أخشى على المليونيات من الابتذال، بقدر ما أخشى أن يفقد ميدان التحرير براءته. ففي عناوين جريدة «الشروق» أمس (يقصد الثلاثاء 9/8) أن اتحاد الثورة يتمسك (بمليونية) ميدان التحرير وأن ائتلاف الثورة يقاطع.. وفي بداية الأسبوع، قرأنا بيانا لبعض الطرق الصوفية مع مجموعات أخرى علمانية وشيوعية وقومية وقبطية وغير ذلك، دعا إلى مليونية «في حب مصر» يوم الجمعة المقبل (يقصد اليوم)، لكننا أول أمس (يقصد الاثنين) وقعنا على بيان للمجلس الأعلى للطرق الصوفية ينفى علاقة المجلس بالمليونية وبأي أحزاب سياسية صوفية. وبالمناسبة، فإنني لم أفهم لماذا يتم إقحام حب مصر في الموضوع هذه المرة بالذات، وكأن المليونيات السابقة كانت في حب شيء آخر. كما أنني لم أفهم أن تنادي المجموعات العلمانية واليسارية بفصل الدين عن السياسة، ثم تفاجأ بأنها تستعين ببعض الطرق الصوفية لحشد أعضائها في تظاهرة الجمعة. المشكلة، كما أفهمها، أن كثيرين انزعجوا من حضور السلفيين في تظاهرة جمعة 29 يوليوز، واعتبروا أن كثافة الحضور أريد بها اختطاف الثورة وتوجيه مسيرتها صوب إقامة ما يسمى بالدولة الدينية، وهو ما سبب إزعاجا للعلمانيين واليساريين، فقرروا إقامة تظاهرة أخرى لإثبات الحضور والدفاع عن مشروع الدولة المدنية. وتفتق ذهن البعض عن فكرة اللعب على التناقض التاريخي بين السلفيين والصوفيين (أفهموهم أن السلفيين سيهدمون الأضرحة)، فاستعانوا بالآخرين للرد على الأولين. واستخدم في ذلك شعار المليونية ووقع الاختيار على ميدان التحرير ليكون ساحة المقارعة والمنافسة. وهى معركة لا علاقة لها بالثورة أو بهموم الشعب المصري في حين لا ينشغل بها سوى نفر من المثقفين الذين دأبوا على إشغال الرأي العام طوال الأشهر الستة الماضية بحساباتهم ومراراتهم. وكانوا لا يزالون أحد أسباب تعويق انتقال السلطة إلى المدنيين، وبالتالي أحد أسباب استمرار حكم المجلس العسكري وتأخير الانتقال إلى الديمقراطية. إن تظاهرة في الميدان لا تعني اختطاف الثورة. ومن التبسيط الشديد والمخل أن يتصور أي أحد أن إقامة تظاهرة مضادة من شأنها استرداد الثورة من خاطفيها. أدري أنه في الفراغ السياسي الراهن باتت القوى المختلفة تلجأ إلى رفع صوتها في الشارع أو الميادين. كما أنها أصبحت تلجأ إلى وسائل الإعلام كي توصل الصوت إلى أوسع دائرة ممكنة من الناس. أدري كذلك أن بعض المثقفين لم يكفوا، طوال الأشهر الماضية، عن شحن الرأي العام وتأجيج المشاعر وتعميق الخلافات، كما أن بعض المنابر الإعلامية لم تقصر في الاصطياد والاختلاق والدس. لكن العقلاء يجب أن يتعاملوا مع هذه الأعراض باعتبارها من آثار رفع الإصْر والغطاء في أعقاب السنوات الثلاثين التي عاشتها مصر مكبلة بالقهر ومرتهنة بقانون الطوارئ، وهي فترة كفيلة بأن تصيب كثيرين بمختلف العقد والتشوهات. إن العقلاء يجب أن يدركوا أن مصر أكبر من أن يختطفها أي أحد، كما أنها ليست ملكا لأي أحد. وإن الفرقعات التي تطلق للترهيب في الفضاء السياسي، هي في حقيقتها مجرد تجليات للحرب الباردة القائمة بين مختلف القوى التي علمتها السنوات الثلاثين كيف تتخاصم وتتحارب ولم تتعلم بعد كيف تتحاور وتتعايش. إن المتطرفين والمهيجين والفوضويين موجودون في كل اتجاه. وغلاة العلمانيين ليسوا أفضل كثيرا من غلاة المتدينين، فالذين يكفرون المتدينين بالديمقراطية لا يختلفون عن الذين يكفرون العلمانيين ويخرجونهم من الملة الدينية. من ثم، فتحويل ميدان التحرير إلى ساحة للصراع، بعد أن كان رمزا للثورة ولتلاحم فئات الشعب وقواه، يبتذل الميدان ويهين المليونيات ويسيئ إلى الثورة. لذلك، فإذا كان لا بد من استمرار ذلك الصراع البائس، فليكن خارج ميدان التحرير وبعيدا عن المليونيات، وليبق في إطاره الطبيعي، بين قوى تقليدية ومثقفين فشلوا في الحوار والتعايش، تماما كما كان طوال العقود الماضية. وبهذه المناسبة، فإن ذلك التسابق على إثبات الحضور في ميدان التحرير لا يحقق انتصارا لأي طرف ولا فوزا بأي غنيمة، ولكنه يعني فشل الجميع في الاستعلاء فوق المرارات وعجزهم عن الالتزام بقيم الثورة ومبادئها أو حتى الوفاء للشهداء الذين يتمسح بهم البعض هذه الأيام. إن هذا الصراع الثقافي والسياسي البائس أشد خطرا على الثورة من الدور الذي تقوم به فلول النظام، لأن هؤلاء الأخيرين يعملون على ضرب الثورة من الخارج، في حين أن ذلك الاشتباك بين النخب التي تتحدث عنها يطعن الثورة من الداخل، لذا لزم التنويه.