الكتابة عن مصر كانت سهلة ميسرة في عهد الرئيس حسني مبارك، الأمور واضحة: نظام فاسد مستبد محاط بمافيا من رجال الأعمال، ومدعوم أمريكيا وإسرائيليا، ويشكل العمود الفقري لمحور الاعتدال المنحاز إلى عملية سلام مسمومة. الآن، اختلفت الصورة كليا بعد سقوط هذا النظام على أيدي شباب الثورة، وأصبحت رمادية، يحتاج المرء إلى بلورة سحرية لكي يتحسس طريقه وسط تعقيداتها. بمعنى آخر، كنا نعرف ما يريده النظام السابق ونستقرئ سياساته وخطواته، ونتحسس مواقفه من القضايا جميعا تقريبا، ونعلم عن ظهر قلب بأنه مرتهن لأمريكا، ولكن يستعصي علينا فهم النظام الحالي بل وبعض القوى المصرية الرئيسية، فكيف نفهم الحوار الحالي أو بالأحرى الغزل المتصاعد بين حركة الإخوان المسلمين والولاياتالمتحدةالأمريكية والاجتماعات واللقاءات المتواصلة بين الجانبين. وما دمنا نتحدث عن حركة الإخوان، كيف نفسر إعلانها مقاطعة المظاهرة المليونية، التي ستنطلق يوم غد الجمعة (يقصد أمس) في ميدان التحرير وسط القاهرة احتجاجا على المحاكمات العسكرية للمدنيين وسوء إدارة المجلس العسكري الحاكم لعملية الانتقال السياسي إلى الديمقراطية التي يشرف عليها، ثم تتراجع عن هذه المقاطعة قبل يومين من انطلاق الاحتجاج لتؤكد مجددا مشاركتها فيها. هناك الكثير من علامات الاستفهام حول موقف العسكر من قضايا عديدة، أبرزها طريقة التعاطي مع محاكمات رموز النظام السابق، والرئيس حسني مبارك على وجه الخصوص، فحتى هذه اللحظة لا أحد يعرف طبيعة حالته الصحية ونوع السرطان الذي يعاني منه... في البداية، قالوا إن حالته المرضية على درجة من السوء بحيث لا تسمح بمثوله أمام المحكمة لمواجهة قضايا القتل والفساد الموجهة إليه. الآن وبعد مرور ستة أشهر على نجاح الثورة، مازال الوضع على حاله.. الرئيس ينعم بإقامة طيبة ورعاية «صحية» من درجة خمس نجوم، وكذلك حال ولديه ومعظم وزرائه ومساعديه الذين أفسدوا البلاد والعباد. ندرك صعوبة الأوضاع في مصر، والاقتصادية منها على وجه الخصوص، مثلما ندرك أن هناك عجزا ماليا مقداره 13 مليار دولار نتيجة حالة الشلل التي أصابت الاقتصاد المصري وضربت الموسم السياحي، أحد مصادر الدخل الرئيسية للخزانة المصرية. ولكن ما علاقة هذا الأمر ببطء المحاكمات، مثلا، وإبقاء قادة رجال الأمن السابقين المتهمين بقتل المتظاهرين في مواقعهم، بل والإفراج عن بعضهم بعد محاكمات مشكوك في نزاهتها ونوايا قضاتها؟ الثورة تعني التغيير الشامل وقلع جذور الفساد دون رحمة أو شفقة والتأسيس لنظام جديد، يكرس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ويطلق الحريات ويعيد إلى المواطن المصري المسحوق كرامته وآدميته بعد سنوات من القمع والاضطهاد ونهب المال العام على يد حفنة من حيتان البزنس لا تشبع من مص دماء الفقراء والمحرومين. المؤسسة العسكرية المصرية، الممثلة في الجيش، حازت احترام الجميع عندما انحازت إلى الشعب، وحسمت الأمور لمصلحة شباب الثورة عندما أمرت الرئيس مبارك بالرحيل عن السلطة، وبدأت في اعتقال رموز الفساد الواحد تلو الآخر، بمن في ذلك نجلاه، ووضع كبيرهم الذي علمهم السحر تحت الإقامة الجبرية في أحد المستشفيات والتحقيق معه من على سرير المرض. ولكن مع تراجع المؤسسة عن تلبية مطالب الثورة والثوار كاملة والدفع بعجلة التغيير بالسرعة المطلوبة، بات الكثيرون يفقدون حماسهم السابق ويتراجعون عن تأييدها المطلق، وما احتجاجات الغد (يقصد أمس الجمعة) المليونية إلا أحد وجوه التعبير الشعبي الصادق عن فقدان هذا الحماس. اندلاع الاشتباكات في القاهرة، يوم الاثنين الماضي، احتجاجا على قرار المحكمة بالإفراج بكفالة مالية عن سبعة من رجال الأمن متهمين بقتل متظاهرين في السويس أثناء اندلاع فعاليات الثورة، ثم محاولة اقتحام مئات المتظاهرين لمبنى مديرية أمن السويس، احتجاجا على رفض المحكمة طلب استئناف تقدمت به النيابة العامة للطعن في قرار الإفراج عن الضباط السبعة، هما أبرز بوادر التوتر، واهتزاز صورة المؤسسة العسكرية في أذهان المواطنين، والتراجع التدريجي لشعبيتها في الشارع المصري. ما نخشاه ونتخوف منه أن تكون المؤسسة العسكرية المصرية تراجعت عن مواقفها السابقة التي اتخذتها في بداية الثورة، من حيث تبني سياسات تمثل النقيض لسياسات النظام السابق بسبب الضغوط التي تمارس عليها من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض الدول العربية النفطية الثرية. فاللافت أن الدول الغربية، والولاياتالمتحدة على وجه الخصوص، تستخدم ورقة القروض والمساعدات المالية لتركيع الثورة المصرية، وحرفها عن أهدافها الوطنية الشريفة، وإعادة مصر إلى عصر الظلمات الذي عاشته لأكثر من أربعين عاما تحت حكم النظام المخلوع ورجالاته. الثورة المصرية انطلقت من أجل إنهاء عصر التبعية ووقف كل ممارسات الاستجداء لفتات الموائد الأمريكية والعربية.. الثورة نجحت لأن الشعب المصري يريد فجرا جديدا من الكرامة والقرار الوطني المستقل وبما يؤدي إلى إعادة الريادة والقيادة لبلاده في محيطها العربي والإفريقي، ويبدو أن محاولات عكس هذا التوجه المشرف بدأت تعطي ثمارها في أكثر من اتجاه، أبرزها التراجع عن المضي قدما في العلاقات مع إيران تحت تأثير الضغوط السعودية في وقت يوجه فيه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل دعوة رسمية إلى نظيره الإيراني لزيارة الرياض للبحث في كيفية تحسين العلاقات بين البلدين. تمسك مصر باستقلالية قرارها والخط الوطني الذي اتبعته في ما يتعلق بالقضايا العربية المصيرية، ونصرة شعب فلسطين على وجه الخصوص، هي التي ستجبر أمريكا والدول الغنية على مساعدتها ماليا واحترام خيارات شعبها وقيادتها، أما أساليب التذلل تحت عناوين الواقعية والبراغماتية فستعطي نتائج عكسية تماما. في ظل هذه المواقف الرمادية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، تأتي اعتصامات واحتجاجات يوم غد الجمعة (يقصد أمس) من قبل شباب الثورة خطوة منطقية بل وحتمية لإصلاح الاعوجاج الذي بدأ يطل برأسه في مسيرة الثورة المصرية. استمرار الاحتجاجات الشعبية هو بوليصة التأمين الأقوى والأنجع لمنع انحراف الثورة المصرية عن أهدافها، وتكريس كل معاني الوفاء لدماء الثوار الذين قدموا أرواحهم من أجل إنجاحها لتوفير حاضر أفضل للشعب المصري الكادح، ومستقبل أكثر إشراقا لأجياله القادمة.