سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ولي العهد يستعين بالدويري لإفشال تشكيل حكومة يقودها علال الفاسي مولاي الحسن كان مع شق حزب الاستقلال لإبعاد المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد عن رئاسة الحكومة
تعود حكاية هذه الصفحات إلى سنوات طويلة، ليس التفكير فيها، بل تسجيلها، حيث كنت طرحت على الأستاذ محمد اليازغي في ربيع 1997، أثناء وجودنا في مدينة ورزازات، مقترح أن يكتب مذكراته لما ستكون لها من قيمة سياسية وتاريخية، دون أن تكون هناك ضرورة لنشرها، ووافقني، لكن انشغالاته في مهامه الحزبية، ثم في مهامه الوزارية بعد مارس 1998، جعل الفكرة تغيب عن أحاديثنا. في صيف 2003، أعدت طرح الفكرة عليه وأثناء مناقشتها، بدت لنا صعوبة أن يخصص يوميا وقتا لكتابة هذه المذكرات، فجاءت فكرة أن أسجل له، ليس مذكرات، بالمعنى المتعارَف عليه، بل تسجيل مساره كإنسان، على شكل حوار صحافي مطول، وهكذا كان. وسجلنا ما يقارب عشر ساعات، لكن النتيجة كانت فشلا، لأن جوابه عن كل سؤال كان جوابا عن كل شيء إلا عن شخصه ودوره وموقفه. كانت الساعات التي سجلتها، ليس عن محمد اليازغي بل تأريخا للمغرب وللحزب الذي انتمى إليه، إن كان من أجل الاستقلال أو من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في وطنه ولشعبه، وخلصت، مع أن خلاصتي لم تنل رضاه، إلى أن تجربة التسجيل غير موفقة أو على الأقل ليست كما تصورتها، وقبِل معي أن نعيد التسجيل، لكن بعيد ذلك، في نونبر 2003، انتخب كاتبا أول للحزب، فتأجل كل شيء. وفي صيف 2009، قررنا أن نعيد التجربة، فكانت هذه النتيجة، التي أستطيع القول إنني لم أنجح فيها، على الأقل بالنسبة إلي، في أن «أحفزه» على الخروج, بشكل كامل أو كبير نسبيا، من العامّ نحو الخاص الذي كان يتدفق منه خارج التسجيل في لقاءات ثنائية أو عائلية أو مع مجموعة من الأصدقاء، بل أكثر من ذلك كان التدفق أحيانا بعيد إنهائنا التسجيل، حيث كان، عدة مرات، يتحدث همسا أو يطلب إيقاف التسجيل ليشرح أو يُفصّل أو يروي. هذه الصفحات، ليست كل ما سجل، إذ كثيرا ما تذكرنا أحداثا ووقائع أثناء تفريغ الأشرطة أو التصحيح والمراجعة فأضفناها. هذه الصفحات، إذا لم تكن مذكرات، فإنها، وبالتأكيد، ستكون مرجعية لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي المغربي الحديث، لأنها ليست صفحات مراقب أو شاهد، بل هي صفحات فاعل ومؤثر، لعب دورا متميزا في مسيرة وطنه وحزبه. - في الفترة نفسها التقيت علال الفاسي.. في هذه الفترة، كان علال الفاسي قد رجع إلى الوطن واستقر في طنجة بعد أن اقتنع باستراتيجية الحزب وانخرط في مخططه المرحلي. وكانت المرة الأولى التي سألتقي به فيها في مارس 1957 حين كلفني المهدي بن بركة، مع عمر بن جلون ورشيد بن عبد الله وعباس الدكالي، بالاشتغال مع علال الفاسي حول ملف موريتانيا والصحراء في الوثائق الفرنسية. لكن عمر بن جلون ورشيد بن عبد الله لم تساعدهما الظروف كي يشاركا في هذه المهمة، لذا سافرت أنا وعباس الدكالي إلى طنجة والتحق بنا بن زكري الذي كان هناك (في طنجة)، واشتغلنا 15 يوما في منزل علال الفاسي على الأرشيف الفرنسي، سواء ما تعلق منه بوثائق وزارة الخارجية الفرنسية أو بالتقارير التي كان الحكام الفرنسيون في الجزائر ودكار يبعثون بها إلى الحكومة في باريس حول الصحراء وموريتانيا. وكانت هذه ذخيرة كبرى لأنها كلها في النهاية تبين أن شنقيط والساقية الحمراء ووادي الذهب كانت دائما جزءا لا يتجزأ من المغرب، ففي تلك الوثائق والتقارير يعترف الفرنسيون بأنهم اقتطعوا أطرافا من الصحراء الشرقية في المغرب وألحقوها بالجزائر. وقد علمت، من خلال الاحتكاك بعلال الفاسي طيلة إقامتي عنده، بأن النخبة المغربية التي درست في الغرب لم تكن لديها معرفة بهذه العلاقة بين شنقيط والصحراء والمغرب، على عكس شخصية مثل علال الفاسي، أحد علماء القرويين الذين كانوا يتعاملون دائما مع شنقيط والصحراء كجزء من المغرب وكانت علاقاتهم بعلماء وصوفيي الجنوب قوية ومتينة، كما أن معرفتهم بالقبائل الصحراوية وعلاقاتها الإثنية بباقي القبائل في الشمال كانت معرفة دقيقة. - هل كان ذلك استعدادا لفتح ملف الصحراء وموريتانيا على الصعيد السياسي؟ هذا غير مستبعد، خاصة وأن علال الفاسي كان قد فاجأ إخوانه والملك بطرح موضوع استرجاع موريتانيا والصحراء، أما المهدي فقد كان يسعى إلى إيجاد الوثائق الدولية التي تؤكد مغربية هذه المناطق. وداخل الحزب كانت الآراء متباينة، إذ لم يكن الجميع يشاطرهما الرأي، لكن المهدي بلا شك حين ناقش علال في موضوع شنقيط والصحراء وجد أن هذا الموضوع بحاجة إلى وثائق وتحرٍّ لإثبات مغربية شنقيط والصحراء. من هنا جاء تكليفنا من قبل المهدي بالذهاب إلى طنجة والاشتغال مع علال الفاسي، ومكننا ذلك بالفعل من جمع كل الفقرات المتعلقة بالصحراء وموريتانيا الواردة في الوثائق الفرنسية التي ترجع إلى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والتي كانت بين أيدي قادة الحزب، وهي -كما أسلفت- مذكرات الحكام الفرنسيين في الجزائر ودكار إلى جانب وثائق أخرى لبعثات استكشافية استعمارية في المنطقة. - كيف كانت علاقتكم بالسّي علال خلال هذين الأسبوعين؟ كانت علاقات جيدة، كنا نذهب كل يوم إلى منزله للاشتغال، على اعتبار أنه كان قد حصل على عدد من الوثائق وطلب مساعدة الحزب لتنظيم الأرشيف حول شنقيط والصحراء.. كان يعاملنا كأننا أفراد من العائلة، فنسجت شخصيا علاقات قوية معه. ولا أتذكر أننا تحدثنا معه، في البداية، في غير المسائل العادية، خصوصا تلك المتعلقة بالحكومة التي كانت تشغل الحزبيين، ولاسيما بعد بدء حملة وجولة قام بها علال الفاسي في عدد من المناطق وجرت أثناءها محاولة لاغتياله في ناحية بولمان، حيث استهدف من طرف عناصر مناهضة لحزب الاستقلال ولدوره. بالنسبة إلي، كان علال الفاسي رمزا متميزا للوطن ومثالا لشخصية رفيعة الأخلاق السياسية والإنسانية والسلوكية، واكتشفت في طنجة أنه بسيط في حياته، وعندما يتكلم فإنه يعبر عن رأي صريح وموقف شجاع يعكس قناعة حسية وعقلانية. وشعرت بمرارته وهو يقدم إلي إشارات، عند إقامتي في منزله بطنجة، تنم عن رفض إخوانه في القيادة دعمه ليكون ربان السفينة الحزبية، وليس فقط زعيما رمزيا بصفته فقيها وأديبا من علماء القرويين. ولن أنسى أنه أول من كتب في جريدة «العلم» مطالبا السلطات بتوضيح مصيري بعد اختطافي في أكتوبر 1970، كما أنه كان أول من زارني في مستشفى ابن سينا يوم توصلت بالطرد الملغوم في يناير 1973 قبل أن أخضع لعملية جراحية استمرت 16 ساعة. - أطلعتم المهدي على خلاصة مهمتكم بعد عودتكم من طنجة.. لم نقدم إلى المهدي بن بركة تلخيصا بل تقريرا مفصلا حول ما تحتويه الوثائق الرسمية الفرنسية بشأن انتماء شنقيط والصحراء إلى المغرب، وقد سلم النسخة الأصلية لذلك التقرير إلى علال الفاسي. - نشاطكم الحزبي عاد من خلال نفس الخلية الحزبية.. عدنا إلى النشاط العادي في إطار نفس الجماعة الحزبية التي بقيت مكونة من سبعة أو ثمانية إخوة.. نجتمع أسبوعيا ونقوم بمجهود شخصي لتوسيع معارفنا جميعا. وفي سنة 1958، سيتوجه عمر بن جلون إلى فرنسا لمتابعة تعليمه في المدرسة العليا للمواصلات، فيما واصلت أنا دراستي في كلية الحقوق بالرباط، وواصلت بالموازاة عملي في وزارة المالية سنة 1959، حيث أصبحت رئيس قسم ميزانية التجهيز في مديرية الميزانية بوزارة المالية. وشاركت في الإعداد للتصميم الخماسي 1960-1964 الذي قررت الحكومة صياغته من أجل تنمية قدرات المغرب وإدخاله إلى عهد الإصلاحات المطلوبة، واشتغلت كمقرر للجنة التجهيز الإداري ووضعت الوثيقة المتعلقة بالموضوع واستعرضتها في إحدى جلسات المجلس الأعلى للتخطيط بحضور ولي العهد مولاي الحسن، نائب رئيس الحكومة آنذاك، وهي الوثيقة المنشورة في الكتاب من اللون الأزرق الذي جمعت فيه مقررات المخطط الخماسي، وهو المخطط الذي أدخلت عليه فيما بعد تعديلات من اقتراح «بابيون» و«بلاك بلير»، المستشارين الفرنسيين الخاصين لمولاي الحسن، لمحو بعض التوجهات التقدمية في المخطط. في تلك الفترة، كانت هناك حملة مشنونة ضد حزب الاستقلال، كان يقف وراءها مولاي الحسن، معتمدا في ذلك على عبد الكريم الخطيب والمحجوبي أحرضان، وأطلق خلالها على الاستقلال صفة «الحزب المهيمن» متهما إياه بكونه يريد إقامة الحزب الوحيد في المغرب. وهذا لم يكن صحيحا، فقد كانت كل النقاشات التي تتم داخل الحزب تبين اختلاف الآراء، وكان اتخاذ القرارات يجري بشكل ديمقراطي. وقد سألت المهدي بن بركة، مرة، عن صيغة الحزب الذي يطمح إليه، فأجابني بأن المثال هو حزب المؤتمر في الهند، بمعنى أنه كان ينشد حزبا لديه أغلبية لكنه قابل بالتنوع داخله وبالتعددية الحزبية داخل البلاد. لكن الخصوم كانوا مركزين على إلصاق الاتهامات بالحزب، خصوصا في بداية الاستقلال لما طرح الحزب سؤالا حول كيفية بناء الدولة، حيث كان هناك تعاقد بين محمد الخامس والحزب بخصوص بناء دولة ديمقراطية، فيما كان ولي العهد يرى أن المغرب بحاجة إلى دولة قوية، ليس من اللازم أن تكون ديمقراطية. والحقيقة أنه بعد الاستقلال، برزت قوى يمينية ملتفة حول ولي العهد تعمل على المحافظة على الواقع السياسي كما ورثناه عن الماضي وعن فترة الاستعمار، والصيغة المطلوبة لبناء دولة الاستقلال بالنسبة إلى هذه القوى اليمينية، التي تحصن داخلها كل المتعاونين مع الحماية والإدارة الاستعمارية، هي أن تجمع المؤسسة الملكية الحكم السلطاني الذي كان في المغرب ما قبل 1912 وسلطة المقيم العام الفرنسي، أي الإدارة العصرية الحديثة المركزية والقوية والتي لا تخضع لأي محاسبة ديمقراطية، وهذا هو ما كان، في البداية، لب الخلاف بين مولاي الحسن وحزب الاستقلال. ووصلت الحملة الشرسة ضد حزب الاستقلال إلى حد قيام تمرد على غرار ما حصل في تافيلالت على يد عدي وبهي، وفي زمور على يد ابن الميلودي، وفي الريف على يد عبد الكريم الخطيب وأحرضان، وهو تمرد حركته أيادٍ داخلية وأجنبية وكان يهدد الوطن بالتفكك. وعلينا ألا ننسى أن تجربة مهمة ستعيشها البلاد في بداية الاستقلال، فقد كانت لدى الملك محمد الخامس رغبة في أن تتوحد صفوف الوطنيين، إيمانا منه بأن المغرب لا يمكن أن يستقر ويتطور إلا بالتأسيس لتوافق بين الملك والحركة الوطنية، وعلى الخصوص حزب الاستقلال، لإيجاد أرضية، ولو مؤقتة، تجعل اختيار الدولة الوطنية يكون هو الاختيار الديمقراطي. وهكذا تأسس، في غشت 1956، المجلس الوطني الاستشاري، وعين محمد الخامس 76 عضوا لمدة سنتين قابلة للتجديد، وتم الانتداب الجديد في أكتوبر 1958. وقد كانت للمجلس، وإن كان معينا، تمثيلية حقيقية للبلاد، حيث ضم حزبَ الاستقلال وحزب الشورى والنقابات والعلماء والفلاحين ورجال الأعمال والطائفة اليهودية والشباب والطلبة الذين كان يمثلهم في المجلس، عند انتدابه، عبد الرحمن القادري. وطفق المجلس، الذي ترأسه المهدي بن بركة، يعمل كأنه برلمان حقيقي منتخب، إذ أخذ يناقش السياسة الكبرى للبلاد ويناقش الميزانية التي تعرض عليه والسياسة الخارجية، خاصة على صعيد التحالفات لأنه كانت هناك أصوات داخل المغرب تقول إنه علينا اختيار تحالفاتنا، فبما أننا أصبحنا دولة مستقلة فعلينا أن نحدد أين نقف في هذا العالم. واختار المغرب، على ضوء مداولات المجلس الاستشاري الذي كان هو ميدان تلك النقاشات، عدم التبعية والتعاون الحر مع جميع الدول. إلا أن هذا التوافق لم يدم، إذ سرعان ما سيقنع ولي العهد والده (سنة 1959) بحل المجلس وإلغائه. بقي النقاش حول بناء الدولة المغربية وطبيعة الدولة الديمقراطية التي نريدها مستمرا بعد حكومتي البكاي الأولى والثانية. ولما جاء أحمد بلافريج إلى رئاسة الحكومة المنسجمة التي طالب بها الحزب، استمرت الأزمة. وفي محاولة لحلها، استدعى محمد الخامس أواخر سنة 1958 علال الفاسي وكلفه بتشكيل حكومة جديدة، وأجرى الأخير مشاورات مع الأطراف الحزبية، وهي المشاورات التي تكللت بنجاحه في تشكيل الحكومة المرغوب فيها من كل الأطراف الوازنة داخل اللجنة التنفيذية وداخل اللجنة السياسية الموسعة في حزب الاستقلال. لكن ولي العهد، مولاي الحسن، أفشل هذه المحاولة، إذ في الوقت الذي أخذ فيه محمد الخامس مبادرة دعوة علال الفاسي إلى تشكيل الحكومة، كان ولي العهد مصابا بزكام ألزمه الفراش في إقامته بالسويسي، وعندما علم بالأمر غادر إقامته وتوجه للقاء والده، ولحظتها قال له إن هذه ستكون كارثة، مبررا ذلك بأنه إذا أصبح علال الفاسي رئيسا للحكومة فلن يستطيع تنحيته في المستقبل. ولإفشال المحاولة، أقنع مولاي الحسن كلا من أحمد بلافريج وامحمد الدويري برفض العمل مع علال الفاسي داخل التشكيلة الحكومية المقترحة، فما كان من الرجلين سوى أن أبلغا الملك محمد الخامس بعدم استعدادهما الانخراط في التشكيلة الحكومية. وهكذا لما تقدم علال الفاسي أمام محمد الخامس عبر له الأخير عن أسفه على عدم قبول كل من أحمد بلافريج ومحمد الدويري المشاركة في الحكومة الجديدة، فغادر علال الفاسي الرباط غاضبا في اتجاه طنجة حيث اعتكف. وبتعاون بين المحجوب بن الصديق والفقيه محمد البصري وولي العهد، كلف محمد الخامس عبد الله إبراهيم بتشكيل الحكومة، وبذلك تمكن ولي العهد من إبعاد مرشحين أساسيين عن رئاسة الحكومة وهما عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة، لكن قيام حكومة عبد الله ابراهيم شكل، رغم ذلك، التوافق الثنائي بين المؤسسة الملكية والجناح اليساري لحزب الاستقلال. - هل تقصد القول أن ولي العهد كان يهدف إلى شق الحزب وتحقق له ذلك.. كان يسعى إلى شق الحزب وإبعاد المهدي بن بركة أو عبد الرحيم بوعبيد عن رئاسة الحكومة، واختيار شخصية في خدمة قيادة الاتحاد المغربي للشغل. وحين قبل عبد الله إبراهيم عرضَ محمد الخامس لتشكيل الحكومة، تم الاتفاق على أن تعد الحكومة للانتخابات البلدية والقروية في أقرب وقت، وتلك الانتخابات هي التي ستعطي الخارطة السياسية الآتية للبلاد، واستخلاص النتائج منها هو الذي سيؤدي إلى تشكيل حكومة لها تمثيلية تسهر على تنظيم الانتخابات التشريعية لقيام برلمان. وبعد الإعلان عن تكليف عبد الله إبراهيم بتشكيل الحكومة، انقسم الحزب على صعيد القيادة. وعشنا داخل الحزب نقاشا ساخنا شاركتُ فيه مع المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد، كما شاركت في حوار قوي دار بيننا -نحن جماعة من الشباب- وبين أحمد بلافريج ومحمد اليزيدي والهاشمي الفيلالي، وكانوا من أبرز قادتنا، بعد أن حدد لنا المهدي بن بركة موعدا مع كل واحد منهم. كنا نعيش قلقا حقيقيا على الحركة الوطنية من أي شرخ قد يصيبها لأننا كنا نستشعر خطورة ذلك. وكنت أدرك أن هذه الحركة، التي قادت النضال ضد الاستعمار وانتصرت، كانت حركة إصلاحية لتحرير حياتنا السياسية والاجتماعية والدينية من كل الشوائب وتنوير العقول وتخليصها من الجهالة التي عاشتها بلادنا طيلة قرون الانحطاط. وكنت أعتقد أن هذه الحركة قادرة على أن تطور نفسها لكي يكون بمقدورها تصحيح الأوضاع في المجتمع وبناء دولة عصرية ديمقراطية، وكنت أعبر عن آرائي هذه أثناء مناقشاتنا مع قادتنا الكبار. في تلك المرحلة، ظهر على المهدي بن بركة شيء من اليأس. وذات يوم وبينما أنا وبعض الإخوان مجتمعين معه لمناقشة أوضاع الحزب، صرح لنا بأنه سيتخلى عن السياسة ويعود إلى ممارسة مهنته كأستاذ للرياضيات في الجامعة، غير أننا انتفضنا وعبرنا عن رفضنا قراره لأن الإصلاح والتغيير وبناء البلاد والدولة، التي تحقق للمواطنين مستوى من العيش الكريم, لن يكون ممكنا بابتعاده عن المسؤولية. وبعدها قام بجولة كبيرة في عدد من المدن، منها تطوان والدار البيضاء، وألقى عددا من المحاضرات لكي يثير الانتباه إلى هذه المشاكل ويحسس الجميع بضرورة تحمل المسؤولية للتغلب عليها. وكان لحزب الاستقلال صحيفتان، صحيفة ناطقة بالعربية هي «العلم» وأخرى ناطقة بالفرنسية هي «الاستقلال». وكان المهدي بنبركة هو مدير جريدة «الاستقلال»، غير أن القيادة ستزيحه سنة 1958 لتعين بدلا عنه محمد بوستة مديرا. فظهر الصراع أمام الرأي العام، وبقي السؤال هو: كيف يواجه الحزب مشاكله؟ وهل يستطيع حلها بالطرق الديمقراطية. كانت لدى الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل المحجوب بن الصديق رغبة قوية في انقسام الحزب، مشاطرا بذلك رأي الجناح التقدمي داخل القيادة الحزبية، لكن حسابات أخرى هي التي كانت تتحكم في دفعه باتجاه الانقسام، تمثلت في سعيه إلى أن يكون الحزب الجديد تابعا للنقابة، والرأي الذي كان يعبر عنه آنذاك في عدد من اللقاءات هو أنه لا بد من القطيعة وبكيفية فوقية. أما أنا وعدد من المسؤولين الشباب في الحزب بالرباط فكانت لنا وجهات نظر مغايرة تجسدت في أنه لا بد أن يكون العمل التصحيحي، إذا ما كان ضروريا، في إطار مسطرة ديمقراطية. وكان عبد الرحيم بوعبيد من الناس غير المقتنعين بأننا لا نستطيع حل المشاكل والخلاف داخل الحزب. وظل حتى آخر ساعة يسعى إلى خلق توافق وإعادة الحوار من جديد بعد فشل اللجنة الثلاثية. لكنه، في نهاية المطاف، انخرط في عملية الانتفاضة دون أن يشارك فيها عمليا، وقال إنه إذا أقمنا مؤسسة جديدة فلا بد أن تكون مؤسسة ديمقراطية، وإنه لا يمكن إلا أن يكون مع رفاقه التقدميين، حتى وإن أخطؤوا، أما التعايش مع الأطراف المتناثرة داخل حزب الاستقلال فقد أصبح مستحيلا. - كيف عشت الانتفاضة أو الانشقاق؟ بتأثر كبير، أتذكر ذلك اليوم البارد، يوم 25 يناير 1959، وكل أفكاري متجهة نحو إخواني الذين تعبؤوا بوجداناتهم وعقولهم لإدخال المغرب في مرحلة جديدة واعدة من حياته الوطنية. ولا بد أن أحيي هنا بإكبار وتقدير كل المؤسسين، الأموات منهم والأحياء، الذين تحملوا المسؤولية التاريخية لتنظيم مؤتمرات جهوية استثنائية لحزب الاستقلال في نفس اليوم وفي عدة مناطق، وهي المؤتمرات التي انبثقت عنها جامعات مستقلة لحزب الاستقلال شكلت «جامعات متحدة» في فترة وجيزة. وهذا ما مهد لميلاد «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» يوم 6 شتنبر 1959 في سينما الكواكب بالدار البيضاء، بمشاركة قادة من حزب الشورى والاستقلال والحركة الشعبية والأحرار المستقلين، إلى جانب قادة الانتفاضة. كان لقاء تاريخيا لصياغة الأجوبة الجريئة عن الأسئلة الساخنة التي طرحها المغرب المستقل ولابتكار الحلول الواضحة والصادقة لمشاكل التنظيم السياسي وعلاقته بالشعب. لقد قررت الانحياز تلقائيا إلى القوات الشعبية، فشاركت بحماس في الاجتماع الذي ترأسه المهدي بنبركة في قاعة الغرفة التجارية بالرباط (قاعة باحنيني حاليا)، والذي سهر على تنظيمه عمرو العطاوي وعبد الفتاح سباطة وأحمد المرابط والهاشمي بناني. كنت لم أكمل الرابعة والعشرين من العمر عندما ساهمت في هذا الحدث التاريخي. كانت التعبئة قوية في جهة الرباط وتجاوب القواعد كان كاملا، بعيدا عن أي تصفية للحسابات الشخصية بين القادة. وأتذكر أن عبد الفتاح سباطة قدم إلى المؤتمرين تقريرا عن الوضع التنظيمي. كما تدخل الهاشمي بناني لإبراز مفترق الطرق الذي وصل إليه الحزب، وبعده قدم المهدي بن بركة عرضا سياسيا مستفيضا. ولن أنسى الخطاب الرائع الذي وجهه المهدي وهو يدافع بدينامية وحيوية واقتناع عن ضرورة تقييم تجربة حزب الاستقلال منذ 1955 مؤكدا استحالة الاستمرار في الوضع الذي كان قائما آنذاك، وطرح خلال ذلك بديلا حزبيا وسياسيا كمشروع في أفق بناء مغرب ديمقراطي. وهو الخطاب الذي ختمه المهدي بن بركة بإعلان استقلال فروع الرباط عن الإدارة المركزية العاجزة. وقد انتخبنا عبد الرحيم بوعبيد، في غيابه، كاتبا إقليميا وعمرو العطاوي نائبا له وأحمد المرابط أمينا للمال، وما كان متفقا عليه قبل عقد المؤتمرات الاستثنائية هو أن تؤسس كل جهة جامعتها المستقلة، وهكذا عقدت مؤتمرات في كل من وجدة وفاس وطنجة ومكناس والقنيطرة والرباط والدار البيضاء وأكادير ومراكش. وبعد ذلك بأسابيع، اتفق على الإعلان عن قيام «الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال»، وانتخبت عضوا في مكتب فرع الرباط. وبعد ذلك بفترة وجيزة، التحق بالكتابة الإقليمية للرباط التي اتخذت مقرا جديدا لها قرب وزارة الصحة حاليا في حي الوزارات. وبصفتي عضوا في الكتابة الإقليمية، فقد حضرت المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية يوم 6 شتنبر 1959. كانت المعطيات التي توفرت لدينا آنذاك تشير إلى أن المهدي أقنع علال الفاسي بجدوى القيام بالحركة الإصلاحية، لكن المحجوب بن الصديق والفقيه البصري وآخرين عارضوا ذلك، وأقنعوا المهدي بأنه إذا كان علال موجودا ومساهما في الانتفاضة، فإن ذلك يعني أن لا شيء سيتغير، فتخلى المهدي عن الدفع بعلال في اتجاه أن يكون جزءا من الحركة التصحيحية. وفي الواقع، كان إبعاد علال الفاسي عن الانتفاضة مناسبة له ليصبح القائد الفعلي لحزب الاستقلال بعد 25 يناير 1959، لأن الحزب منذ الاستقلال عاش برأسين، هما المهدي بن بركة وأحمد بلافريج، وكانت الانتفاضة مناسبة دفعت علال الفاسي إلى أن يصبح قائدا فعليا للحزب لأنه قبل ذلك لم يكن زعيما له، وإنما كان رمزا وسلطة معنوية وإشعاعا أكثر منه قائدا، لأن ممارسة المسؤولية الحزبية كانت مركزة بين يدي الأمين العام للحزب أحمد بلافريج ومدير الحزب المهدي بن بركة. وبعد الانتفاضة سوف يأتي علال الفاسي ليكون المسؤول الرئيسي، ولهذا فعندما بدأ ممارسة هذه المسؤولية اتخذ قرارا بطرد العشرات ممن شاركوا في الجامعات المتحدة.. لم يطرد كل الناس الذين شاركوا في انتفاضة 25 يناير وإنما طرد البعض وسكت عن آخرين إلى أن عقد المؤتمر الأول للحزب (سنة 1960)، حيث سيقرر إبعاد أحمد بلافريج عن منصب الأمين العام للحزب.