يمكن بكل سهولة التعرف على إيطاليا في إطارها التاريخي والثقافي والفني والعلمي وحتى الرياضي، لكننا أمام إيطاليا السياسية والسياسيين نجد أنفسنا نتأمل الوضع باندهاش بالغ دون تمكننا من الحصول على أجوبة واضحة ومقنعة, رغم أن كتبا ومقالات إيطالية متعددة حاولت معالجة الموضوع وتقريب الصورة نوعا ما لوضع اليد على العلة الإيطالية في مجال السياسة. كتاب «لاكاستا» الذي ألفه صحافيان من جريدة إلكوريري ديلاسيرا وحقق رقم مبيعات لم يسبق لكتاب إيطالي في مجال السياسة أن وصل إليه، حاول معالجة موضوع الفساد السياسي بإيطاليا ليكشف عن فضائح وأرقام مخيفة لاستغلال وتبذير السياسيين الإيطاليين لأموال مواطنيهم، وليحرج بالتالي الأحزاب السياسية وأصحاب القرار بإيطاليا الذين رفض غالبيتهم التعليق على ما جاء في الكتاب. سخط على السياسة إذا طرحت سؤالا على أي إيطالي حول السياسة والسياسيين الإيطاليين فإن الجواب في غالبية الأحيان يكاد يكون موحدا، ليعتبر أن كل الأحزاب الإيطالية اليمينية واليسارية منها فاسدة وأن قادتها والمسؤولين عنها لصوص يشكلون مافيا حقيقية تنهب أموال الإيطاليين بشكل مستمر. كنت في كل مرة أدخل في حوار مع أحد الإيطاليين من مثقفين أو أناس عاديين ممن يحبون خلق نقاشات حول السياسة الإيطالية، يكررون علي تذمرهم وسخطهم ويأسهم من سياسييهم ومن الحكومات التي تناوبت على «بلاتسو كيدجي» (مقر الحكومة الإيطالية) قائلين: «كلهم لصوص وفاسدون»، «اليمين مثل اليسار يستغلون الشعب الإيطالي لتحقيق مصالح أحزابهم الخاصة» «فهْم تفاصيل السياسة الإيطالية أمر صعب لأن المسؤولين عنها لا يريدون منا فهمها واكتشاف أغوارها حتى يتمكنوا من الاستمرار في نهب أموالنا». فغالبيتهم كان يستدل على سخطه من السياسة الإيطالية بفضائح رئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني المالية والقضائية (فضيحة الرشوة المعروفة باسم ميليس نسبة إلى محامي إنجليزي متهم بحصوله من برلسكوني على رشوة) وباستغلال اليسار الإيطالي للفكر الشيوعي وللمساواة بين المواطنين لتحقيق أهداف خاصة على حساب مصالح وقضايا الشعب الإيطالي. هذا التذمر والسخط لم يكن فقط وليد إيطاليا اليوم التي تعيش على وقع أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية بسبب سوء التسيير وأنانية السياسيين الإيطاليين، بل هي كذلك وليدة سنوات «الرصاص» وعقدي الستينيات والسبعينيات حين أدت الأزمات الإيطالية في تلك الفترة ولا مبالاة السياسيين الإيطاليين إلى تأسيس حركة الأولية الحمراء التي كانت تهدف إلى تغيير الأوضاع عن طريق العنف مع تبنيها لسياسة الاغتيالات في صفوف السياسيين الإيطاليين الفاسدين. كتاب لا كاستا وجد صحفيا جريدة «إلكورييري ديلا سيرا» سيرجيو ريتسو وجان أنتونيو ستيلا نفسيهما محط اهتمام الإعلام والرأي العام والسياسيين الإيطاليين، بعد إصدارهما كتاب «لا كاستا... هكذا أصبح السياسيون الإيطاليون محصنين» الذي سلطا الضوء فيه على تبذير السياسيين للأموال العامة وعلى الفساد السياسي الذي تعيش فيه إيطاليا، من إيرادهما أرقاما ومعطيات وفضائح كانت تغيب عن الرأي العام الإيطالي. فهذا الكتاب الذي حقق للصحفيين المذكورين نجاحا وشهرة منقطعي النظير وبيعت منه 1,2مليون نسخة حتى الآن، اعتبر أن نهب السياسة لأموال الإيطاليين أصبح يتخذ صبغة شرعية وقانونية، ففي مقدمة الكتاب أظهر الصحفيان الإيطاليان تخوفهما من أن تستغل الديمقراطية التي تعيشها إيطاليا في تحقيق مشاريع وأهداف لأحزاب سياسية لا تهمها إلا مصالحها الخاصة، مسلطين الضوء على نموذج جهة بوليا (جنوب شرق إيطاليا) وكيف أن بلديات فيها تنتمي إلى مناطق جبلية تمكنت من ضم مناطق خارجة عن المجال الجبلي إلى أراضيها حتى تستفيد من مداخيلها وتغطي مصاريفها، في حين أن بلديات أخرى صغيرة جدا وبنفس الجهة تحتكم على إدارة تضم عددا كبيرا من الموظفين كان بإمكانها أن تنضم إلى بلديات أخرى مجاورة ذات كثافة سكانية قليلة للتخفيض من النفقات ومن استغلال المال العام. كتاب لا كاستا، وبعد أن تطرق في الجزء الثاني إلى التغيرات التي طرأت على الساحة السياسة الإيطالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن وكيف أصبح الفساد في التسيير هو المسيطر عليها، أبرز كذلك أوجها أخرى من الاستغلال السياسي للمال العام مركزا في أحد أجزائه على نفقات المؤسسات الحكومية والتشريعية الإيطالية التي اعتبرها تبذيرا ونهبا لأموال الإيطاليين. ففي جزء و (قصر من ستة أربعين قصرا) يتحدث الصحفيان عن مصاريف الحكومات الإيطالية، خصوصا تلك التي كان ومازال يتزعمها سيلفيو برلسكوني المتعلقة بمقرات الحكومة والبنايات والمكاتب والفنادق التي تستأجرها لسياسييها ونوابها البرلمانيين لمزاولة نشاطهم السياسي في أحسن الظروف، مبرزين في الوقت نفسه أن صفقات كانت تتم بشكل قانوني بين سياسيين ورجال أعمال. ويحكيان: «لقد قاموا بعمل رائع بحيث إنهم اختاروا أربع بنايات بوسط روما تنتمي إلى مركب بنايات مريني، فعوض شرائها مباشرة قرروا استئجارها بمبلغ شهري باهظ لتسع سنوات في عقد قابل للتجديد لتسع سنوات أخرى كان سيمكنهم من شراء البنايات الأربع بكاملها وبالتقسيط المريح. ...فالمبلغ الإجمالي الذي ستدفعه الحكومة على مدى 18 سنة من الاستئجار سيصل إلى 444 مليون يورو». أما الجزء المسمى ب: ( أربعة ملكيات بثمن نابوليتانو واحد ) فيعالج موضوع التبذير ب»إلكويرينالي» (مقر رئيس الجمهورية) الذي يصرف على موظفيه وعلى المسؤولين فيه مبالغ خيالية تفوق المبالغ التي تصرف على قصر بكاينغهام، لذلك وضع الصحافيان مقارنة بين المكلة إليزابيت والرئيس جورجو نابويلتانو لإبراز كيف أن القصر الرئاسي الإيطالي يبذر أموال الإيطاليين دون محاسبة وبسرية بالغة دون منحه أرقاما رسمية بذلك. «حول الشفافية، و ليحفظ الله الملكة، فقد تم وضع كل تفاصيل مصاريفها على شبكة الإنترنت.. في حين إنه في إيطاليا نرفض ذلك ليبقى أمر مصاريف وميزانية إلكويرنيالي سرا على المواطنين» يحكي الكتاب. الجزء المعنون ب: 37 ساعة يوميا في سفر عبر الطائرة) يكشف فيه صحفيا إلا كورييري ديلا سيرا عن جوانب تتعلق باستغلال السياسيين الإيطاليين يساريين أو يمينيين لطائرات الدولة للقيام بأغراضهم الخاصة، الخارجة عن نطاق المهام الموكولة إليهم مع مبالغة في الفواتير والميزانيات المتعقلة بالسفر «كيف يمكن لبلاتسو كيدجي (الحكومة الإيطالية) في آخر سنة من تولي برلسكوني الحكم أن تصرف يوميا 179.452 يورو للتنقل عبر الطائرة؟ وكيف تمكن أعضائها من السفر 37 ساعة يوميا؟». أما جزء» (لقد أضعت ساعتي روليكس الذهبية ؟ فليدفع مجلس النواب) فيركز على الامتيازات التي يتمتع بها البرلمانيون الإيطاليون داخل قبة البرلمان بمجلسيها، مبرزا أن هؤلاء يستفيدون من كل شيء ويدفعون عن المأكل والسفر والمبيت أقل بكثير مما يدفعه المواطنون الإيطاليون. «الكل يحب أن يتناول وجباته بمطعم بلاتسو مداما (مقر مجلس الشيوخ الإيطالي) ليس فقط لأجوائه الراقية بل كذلك لأثمان أطباقه الرخيصة جدا... فالطبق الأول (إلبريمو) يكلف 3 يورو وطبق «لازانيا» بصلصة الرغو البيضاء تكلف بهذا المطعم أرورو واحد و59 سنتيما، الطبق الثاني (إلسكوندو) باللحم يكلف أربعة يورو ونصف...». الحاجة إلى ثورة صدور هذا الكتاب الأول من نوعه بإيطاليا أحدث جدلا سياسيا وإعلاميا واسعا، إلى حد مطالبة بعض سياسيي اليسار الراديكالي، ومعهم صحفيون وكتاب ومناهضون لاستغلال السياسيين الإيطاليين للمال العام، بثورة وانتفاضة شعبية قوية لطرد من أسموهم بالسياسيين الفاسدين لمنعهم من تحقيق ثروات خيالية على حساب الشعب الإيطالي. فالمطالبون بالثورة أكدوا أن المعلومات التي تضمنها الكتاب لو كانت تهم سياسيين بفرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا أو أية دولة ديمقراطية أخرى لأقام الرأي العام هناك ثورات متواصلة لن يوقفها إلا طرد جميع الفاسدين من الساحة السياسية، فغالبيتهم يعتبر أن إيطاليا لن تتغير في ظل تواجد نفس الوجوه وفي غياب دماء جديدة في جسد السياسة الإيطالية، مستدلين على ذلك يأسماء اعتبروها فاسدة ودخيلة على عالم السياسة مثل رئيس الوزراء الحالي سيلفيو برلسكوني وفيرديناندو كازيني زعيم الحزب المسيحي ووزير العدل السابق وزعيم حزب لوديور ماستيلا المتورط هو وزوجته التي اعتقلتها السلطات الإيطالية في قضايا عدة. أحد هذه الأصوات المناهضة للسياسيين الإيطاليين وهو جاكيفيرو الذي قال: «كتاب لا كاستا لسيرجيو ريتسو وجان أنتونيو ستيلا يتضمن معلومات وفضائح كافية للقيام بثورة بإيطاليا... فرغم قيامنا بثورة في سنة 92 لإزالة الفاسدين من السياسيين الإيطاليين إلا أننا اليوم نجد أنفسنا أمام آخرين أفسد منهم أكدوا استمرار وبقاء نفس النخبة المستغلة لمصالح الإيطاليين لتحقيق مصالحهم الخاصة، فيجب فقط أن ننظر إلى كازيني الذي هو في الحقيقة استمرار لاسم فورلاني أو برلسكوني الذي هو في الحقيقة نسخة طبق الأصل لكراكسي أو ماستيلا الذي يمثل ديميتا، كما لا يجب أن ننسى سياسيين آخرين جلب معهم نوعا جديدا من الفساد مثل ديمكييليس، كلاوديو، مارتيللي وأفيتسيني وغيرهم ممن أبلوا البلاء الحسن في نهب أموال الإيطاليين». أرقام أورد كتاب لاكاستا أرقاما مهمة كشفت وبشكل واضح عن المصاريف اليومية والشهرية المبالغ فيها لأعضاء الحكومة والبرلمانيين والسياسيين الإيطاليين بصفة عامة، وهذه بعضها: - عدد البرلمانيين الإيطاليين 952. عدد المستشارين الجهويين 1129. عدد المستشارين الجهويين غير الرسميين 125. مديرو الجهات الإيطالية 3933. مديرو البلديات 152.155. عمداء المدن 14.242. - عدد المسؤولين والعاملين بمقر الحكومة الإيطالية: 2885. - المصاريف السنوية المحتملة لقصر رئاسة الجمهورية الإيطالية لسنة 2007: 224 مليون يورو. مصاريف مجلس النواب لسنة 2007: مليار وأربعة ملايين وأربعمائة وثلاثة وخمسون ألف يورو. الأجر الشهري لرئيس الوزراء الإيطالي: 18.878 يورو الأجر الشهري للبرلمانيين الإيطاليين: 11.703 يورو (مع مبلغ نهاية الخدمة الذي يمثل 80% من جميع المبالغ الشهرية التي حصل عليها في مدة نيابته بالبرلمان ومع مبلغ 3,323 عن كل تنقل في إطار المهمات الرسمية). كاستا كاستا هي كلمة برتغالية تم إطلاقها على أي شيء نقي وغير ملوث، أما مفهومها الاجتماعي والسياسي فقد أسسه الهنود ليطلقوه على أي جماعة يتقاسم أفرادها نفس التوجهات أو نفس المصالح أو نفس الإثنية والدين، ليرفضوا بشكل قاطع أن ينضم إليهم عنصر آخر أو أن ينضموا إلى جماعات أخرى، وقد تطور هذا المصطلح ليطلقه السياسيون الإيطاليون على الجماعات والتحالفات السياسية والاقتصادية التي يرفض أعضاؤها أن يشاركهم الآخرون في اتخاذ القرار. وكان زعيم المعارضة اليسارية فالتر فلتروني قد استعمله في إحدى خطبه أمام مناصريه، ليبرز أن السياسيين الإيطاليين يعتمدون على مبدأ وفلسفة لاكاستا لتحقيق مصالحهم الخاصة على حساب حرية ورخاء الشعب الإيطالي.