«الجبل الأزرق»، هكذا كنا نسمي «جبل العياشي» الذي نفتخر في كل مناسبة بأنه ثاني أكبر قمة في الأطلس المتوسط. كانت مدينتنا -ومازالت- تنام هادئة تحت أقدامه كأميرة صامتة ومعذبة، لا أحد يعنيه مصيرها. كلما رأيناه مرسوما في أحد كتب «الجغرافيا» نحس بأننا دخلنا إلى «التاريخ». علاقة الإنسان بالمكان على قدر كبير من الغرابة: عندما تكون وسطه لا تكاد تنتبه إليه، وبمجرد ما تغادره تكتشف أن الأشجار وأعمدة الكهرباء والجبال والوديان والحيطان التي تركتها خلفك، كانت أفرادا من عائلتك، تفتقدهم وتشتاق إليهم وتحن إلى الأيام التي قضيتها رفقتهم. عائلة من أشجار وأعمدة يشتتها الزمن بلا رحمة. في النهاية، الأشجار والأعمدة والبنايات وكل شيء في الدرب يبقى مكانه إلا نحن، لأننا بلا جذور تطيّرنا الرياح في كل الاتجاهات، كما قالت النبتة الصحراوية ل«الأمير الصغير» عندما سألها: «أين الناس؟» في رائعة سانت إيكزوبيري. اعتبرت دائما أن «جبل العياشي» ملك الجبال، لأنه يضع تاجا أبيض على رأسه طوال العام، بسبب الثلوج التي تغطي هامته ولا تكاد تذوب حتى تسقط أخرى. بدأت أكتب الشعر في وقت مبكر فقط كي أرسم صورة تشبه منظر هذا الجبل، لكنني لم أصل يوما ولا أعتقد أنني سأصل. في كل القصائد التي قرأتها مازلت لم أعثر على صورة أجمل من مشهد الثلوج البيضاء فوق القمة الزرقاء، فيما المدينة ترفع دخانها إلى السماء، كأن البيوت الحزينة تدخن كي تنسى عزلتها القاسية. لا يمكن أن تمضي الشتاء في ميدلت بلا تدفئة، لأن الحرارة تنزل درجات تحت الصفر. المدينة تعودت أن تقدم القرابين للبرد كل عام. أطفال كثيرون يموتون هنا، دون أن ينتبه إلى ذلك أحد... «أنفكو» على مرمى بضعة كيلومترات. الدولة لم يعنها يوما مصير منطقة مرمية في البعيد. وضعتها بين أيدي «الشيح والريح»، وتركت سكانها البسطاء يعيشون خارج العصر، في كهوف مظلمة، تعذبهم الطبيعة الفظة بلا شفقة. صقيع في الشتاء وجفاف في الصيف. تذكرتهم الرباط مرة واحدة سنة 1973، وأرسلت إليهم فيالق من الجنود والشرطة والدرك كي ينكلوا بهم ويفرقوهم على المعتقلات السرية، دون ذنب. جريمتهم أن الفقيه البصري اختار مدينتهم كي يخوض مغامراته المكلفة لإسقاط النظام. الناس هنا يبدون سعداء رغم عزلتهم، لأنهم يتوقعون الأسوأ من «المخزن»، كل ما يريدونه من الدولة هو أن تتركهم يدبرون حالهم مع البرد والنسيان.