يتفق الفاعلون والمتتبعون للشأن الانتخابي في بلادنا على الازدياد المطرد لاستعمال المال في الاستحقاقات الانتخابية المتتالية ولتأثيره على نتائجها. وهو من الآفات الأشد خطورة على السياسة وعلى المؤسسات المنتخبة والمسيرة في بلادنا. ويزيد من خطرها تفشي الفقر والحاجة والبطالة، وهي التي تجعل العديد من المواطنين فريسة سائغة أمام الهبات والعطايا والوعود، وغيرها من أشكال الابتزاز. إن هذا الاختلال الذي يتهدد المجال السياسي في بلادنا ويشكل، في كثير من الأحيان، عاملا من العوامل الحاسمة في رسم الخرائط الانتخابية، لم يأخذ مع الأسف الشديد حظه من الاهتمام، سواء في النقاش العام أو في مذكرات الأحزاب السياسية. وإذا لم تتخذ الإجراءات الكفيلة بمحاصرته، فإن مخاطره ستزداد دون توقف. ومن المفيد جدا الإشارة إلى أنه كان هناك اتفاق بين الأحزاب السياسية وتقارير جمعيات المجتمع المدني على أن انتخابات 2007 التشريعية عرفت استعمالا واسعا ومكثفا للمال، سواء أثناء الحملة الانتخابية أو يوم الاقتراع، وأحيانا من قبل أشخاص لهم صلات بشبكات التهريب أو المخدرات، مدعمين في العديد من الحالات بعصابات تمارس التهديد والعنف ضد المنافسين السياسيين. وأخطر ما في استعمال المال ظواهر مثل إرشاء رجال السلطة وأعوانها ورؤساء المكاتب وشراء بطاقات التصويت. وكان من نتائج ذلك الاكتساح المتزايد للمؤسسات المنتخبة من قبل أشخاص كل ما يملكونه هو إمكاناتهم المادية الكبيرة، دون أن يكون لهم أي ماض سياسي أو انتماء حزبي حقيقي. فهل من المعقول أن يصرف بعض المرشحين عشرة ملايين درهم (أي مليار سنتيم) أو خمسة عشر أو عشرين مليون درهم، في حملته الانتخابية؟ وهذه حالات ليست بالقليلة في انتخاباتنا. وكيف يمكن أن نتحدث عن نزاهة الانتخابات وعن المنافسة الحرة والشريفة والمنافسون يواجهون طوفانا ماليا يحيلها إلى سوق من التجارة دون ضوابط ودون قواعد؟ وهل سيبقى للسياسة والديمقراطية معنى إذا آلت السيطرة إلى القوة المالية والاقتصادية؟ إن الإنفاق الانتخابي، إذا ما ترك دون ضوابط ولا قواعد، يؤدي إلى القضاء على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المرشحين. صحيح أن الإفساد المالي للانتخابات ليس إلا واحدا من أنواع الإفساد الانتخابي متعدد الأوجه، وليس عاملا مستقلا عن باقي العوامل، فهو يتفاعل مع تدخل الإدارة ودعمها لمرشحين معينين ومع اختلالات مختلف مراحل العملية الانتخابية. وصحيح أيضا أن القصور التشريعي يطال مختلف المقتضيات ذات الصلة، فهي عاجزة بالمرة عن إغلاق منافذ الإفساد المالي للانتخابات. لكننا نتوقف هنا عند المقتضيات المرتبطة بتمويل الحملات الانتخابية. وهي المقتضيات الواردة في المواد من 289 إلى 294 من مدونة الانتخابات. وتقضي المعايير الدولية في مجال تمويل الحملات الانتخابية بالارتكاز على ثلاثة مبادئ أساسية، هي: أولا، شفافية الحسابات البنكية للحملات الانتخابية. ثانيا، تحديد سقف المصاريف الانتخابية. ثالثا، منع تمويل الحملات من قبل المؤسسات الخاصة (أي الأشخاص المعنويين الخاصين) مقابل توفير تمويل عمومي لها. ومن الملاحظ أنه على المستويات الثلاثة هناك ثغرات خطيرة في مدونة الانتخابات تفتح الباب واسعا أمام الإفساد المالي. أولا على مستوى شفافية الحسابات البنكية: على الرغم من أن القانون يلزم المرشح بإيداع جرد للمبالغ التي صرفها المرشح أثناء حملته الانتخابية مع الوثائق المثبتة لذلك وبيان مفصل لمصادر تمويل حملته الانتخابية (المادة 290)، فإنه لا ينص على أي إجراء يضمن التأكد من مصداقية البيانات المقدمة. والإجراء المتفق عليه اليوم لدى الخبراء في الميدان وفي قوانين الدول الديمقراطية هو إلزام المرشح بفتح حساب خاص بالحملة الانتخابية، وبأن تمر من خلاله جميع مداخيل ومصاريف حملته الانتخابية. وإذا ثبت وجود تمويلات أو مصاريف للحملة لا تمر بالحساب البنكي الخاص بالحملة، فإن ذلك يمكن أن يكون سببا في الطعن في انتخابه. ويقتضي مبدأ الشفافية أيضا أمرين اثنين هما: أولا، نشر جميع تصريحات المرشحين وإتاحتها للمنافسين، تمكينا لهم من الطعن على أساسها لدى المحاكم الاعتيادية أو لدى المحكمة الدستورية. ثانيا، رفع السرية عن الحسابات المصرفية الخاصة بالحملات الانتخابية. ثانيا على مستوى تحديد سقف المصاريف الانتخابية: تلزم المادة 289 من مدونة الانتخابات المرشحين بسقف للمصاريف الانتخابية يحدد بموجب مرسوم. لكن القانون لا يقدم أي إجراءات محددة تمكن من مراقبة الالتزام بذلك، ولا ترتب على مخالفته أي جزاء. ومن هنا لا يتضمن القانون أي عقوبة محتملة في حالة عدم وضع المرشح لجرد مصاريف ومصادر تمويله، ولا في حالة تجاوز السقف المحدد وفق القانون، ولا في حالة تقديم بيانات مغلوطة، مع أن الضروري وضع جزاءات لمرتكبها قد تصل -في ظل شروط معينة- إلى إلغاء نتائج الانتخابات ردعا للتجار المتلاعبين بأصوات المواطنين. وهذا يعني عبثية المواد القانونية المشار إليها واستحالة الإلزام بتطبيق مقتضياتها على أرض الواقع، مما يمس بمبدأ المساواة بين المرشحين، خصوصا مع وجود بعضهم من أصحاب الثروات الطائلة. ومن هنا نرى بعض المرشحين يصرفون الأموال الخيالية، ويصرحون فقط ب250 ألف درهم الواردة في المرسوم المعني. ومن الضروري في هذا المجال رفع سقف المصاريف الانتخابية البرلمانية، وجعله شقين: الشق الأول متساو بين مختلف المرشحين، والشق الثاني يختلف حسب معيارين اثنين، هما عدد سكان الدائرة الانتخابية ومساحة هذه الدائرة. فقد ثبت في تجارب دولية متعددة أن رفع ذلك السقف هو من الوسائل الناجعة لتقليل اللجوء إلى التدليس في التصريح بالموارد والمصاريف، ويضمن بالتالي شفافية ومراقبة أكبر لها. ثالثا- على مستوى مصادر تمويل المرشحين: لم تشر مدونة الانتخابات إلى مصادر تمويل المرشح وحملته الانتخابية، واكتفت بالإشارة إلى جزء خاص ب«مساهمة الدولة في تمويل الحملات الانتخابية التي تقوم بها الأحزاب السياسية والنقابات»، وأوردت فيه المواد من 285 إلى 288. وتميل القوانين المقارنة إلى منع تلقي التمويلات من الأشخاص المعنويين، مثل الشركات والمؤسسات العمومية، ووضع سقف لمساهمة الأشخاص الذاتيين في الحملات الانتخابية. يتبين على المستويات الثلاثة أن هناك ثغرات كبيرة تجعل مدونة الانتخابات عاجزة عن قطع الطريق على أعداء النزاهة والشفافية. ولا مجال -مع بقائها- للحديث عن ضمانات تحمي إرادة الناخب من الضغوط، وستظل الانتخابات مرتعا لعمليات الإغراء والإغواء وإغراق الانتخابات في الفساد.