أقدم المصطفى الرميد النائب البرلماني والقيادي في حزب العدالة والتنمية على خطوة صادمة تتمثل في عزمه على تقديم استقالته من مجلس النواب في بحر هذا الأسبوع، وذلك لأسباب عامة تتمثل في التهميش الذي تتعرض له المؤسسات وعلى رأسها مؤسسة البرلمان وأسباب خاصة تعود إلى المنع الغير مبرر لنشاط اجتماعي لإحدى الجمعيات كانت تعتزم القيام به في مسقط رأسه بنواحي سيدي بنور. شخصيا أتفهم الظروف والسياقات الدافعة لاتخاذ مثل هذا القرار، خصوصا بالنسبة لمن يريد أن يمارس السياسة بصدق وأن يخدم بلده عن طريق المؤسسات وأن يتفاعل إيجابيا مع ضرورة المشاركة والانخراط الفعال في صيرورة النضال اليومي دفاعا عن قضايا المواطنين ومشاكلهم من خلال النظام التمثيلي والتنافس الديمقراطي، لكنه يصطدم في الواقع بأن البلد لا زال محكوما بعقلية الضبط والتحكم ولم يتخذ بعد قرارا سياسيا يقضي باعتماد الديمقراطية كخيار لا رجعة فيه، وهكذا تصبح المسؤولية التمثيلية سواء داخل البرلمان أو داخل المجالس المنتخبة فرصة لاكتشاف أنماط من العقليات المخزنية التي تقوم بتسيير البلاد بطرق سلطوية بعيدة عن خطاب الحكامة الجيدة والتدبير الديمقراطي، ويصبح خيار المشاركة المؤسساتية خيارا متعبا ومكلفا، مما يعطي الانطباع بأنه خيار غير منتج في ظل نظام سياسي شبه مغلق، خصوصا في اتجاه حزب العدالة والتنمية.. كل من عايش الحملة الانتخابية في العديد من المدن والبوادي المغربية يلاحظ التفاعل المحدود للمواطنين مع خطاب المشاركة السياسية ومنطق القيام بالواجب الانتخابي كما تمليه مستلزمات المواطنة وإرادة العيش المشترك ، فرغم الاهتمام الذي يبديه بعض المواطنين للتصويت على مرشحي هذا الحزب أو ذاك إلا أن ظاهرة عدم الاهتمام بالانتخابات كمحطة سياسية تبقى ظاهرة ملفتة... الأسباب التي تدفع المواطنين إلى "العزوف" عن الاهتمام بالحملة الانتخابية وبالتنافس الدائر بين الأحزاب السياسية كثيرة ومتعددة ولا يمكن إرجاعها إلى سبب واحد... السؤال المطروح هو من أوصل المواطن المغربي إلى هذا المستوى من السلبية والإحباط وعدم الإيمان بأن التغيير ممكن؟ هل هي الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتبعة من طرف الدولة؟ هل هي سلوكات المنتخبين وممارسات بعض الأحزاب السياسية؟ هل هو تراكم مسلسل من الإحباطات المتتالية وفقدان الثقة في الاستحقاقات الانتخابية بفعل التزوير والتحكم القبلي في النتائج الانتخابية؟ هل هي الاختلالات المؤسساتية الموجودة والتي تفرغ الصوت الانتخابي من أي جدوى؟ هل هو تقصير الأحزاب السياسية في التواصل؟ هل هو التضييق الممنهج على بعض الأحزاب السياسية (اليسار في السابق، العدالة والتنمية حاليا) وفسح المجال أمام أحزاب مدعومة من طرف السلطة إمعانا في تمييع العمل السياسي ودفع المواطن إلى مزيد من الإحباط والانسحاب؟ هل هي مسؤولية وسائل الإعلام الرسمية التي تكرس حضور الحاكم/ الفرد وتتجاهل دور المؤسسات أو تتعامل معها باعتبارها مؤسسات هامشية لا أثر لها في صناعة القرارات السياسية التي تهم المواطن؟ هل هو دور الصحافة التي تبعث في كثير من الأحيان برسائل سلبية عن الأحزاب السياسية وعن المؤسسات المنتخبة و تحاول أن تكرس صورة نمطية عن الأحزاب وعن المنتخبين مفادها أنه ليس في القنافذ أملس؟ كل هذه العوامل تبدو حاضرة مع اختلاف الأوزان النسبية لكل عامل... لكن من المؤكد أن الاختلالات المؤسساتية في بلادنا أصبحت اختلالات بنيوية تؤشر على أن المغرب يمر بأزمة سياسية خطيرة.... في الدول الديمقراطية التي تتوفر على دساتير وقوانين مكتوبة يتم فيها احترام شكليات الدستور والقانون بدقة وليس هناك مجال لمزاج الحاكم أو ل"سطو" سلطة على اختصاصات سلطة أخرى، وكل صغيرة وكبيرة في مجال تنظيم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين تخضع لبنود الوثيقة التعاقدية التي أقرها المجتمع بطريقة ديمقراطية ، والتي تحدد طبيعة المؤسسات الحاكمة ونوعيتها وحدود الصلاحيات التي تتوفر عليها وحدود العلاقة القائمة بينها وبين باقي السلطات، كل ذلك يتم بتفويض من المجتمع الذي أوكل إلى المؤسسات الحاكمة إدارة شؤونه في إطار ما اتفق عليه داخل بنود الدستور، بواسطة انتخابات نزيهة غير مطعون في مصداقيتها ولا في القواعد والقوانين التي تحكمها. والمفروض أن مؤسسات الدولة تسهر على احترام الدستور، كما تسهر مؤسسات المجتمع وهيئاته وأفراده على مراقبة مدى التزام مؤسسات الدولة باحترام الدستور، وإذا حاولت جهة معينة أن تخرق بندا ولو شكليا من مواد النص الدستوري المتوافق حوله، فإنها بذلك تكون قد هدمت جزءا من أركان البناء المجتمعي القائم على قيمة التعاقد وبدأت تؤسس لنمط من العلاقة مع المحكومين قائمة على أساس الاستبداد الذي قد يأخذ شكلا ناعما في بعض الأحيان، لكنه يهدم ما تبقى من مصداقية لدى المؤسسات ويزيد في تعميق نفسية الإحباط لدى المواطن.. في بلادنا تشكلت صورة باهتة حول المؤسسات في ذهن المواطن، بحيث أصبح البرلمان عبارة عن مؤسسة فارغة من أي محتوى سياسي حقيقي، وضعت أمامه جميع الآليات القانونية والدستورية لإفراغه من دوره الرقابي والتشريعي، ولم يتم الاكتفاء بذلك، بل أصبح يتم اللجوء لطرق الضغط السلطوي داخل الكواليس من أجل دفع المعارضة إلى سحب هذه المبادرة الرقابية أو التراجع عن هذا السؤال الشفوي أو تأجيل النقاش حول هذا الموضوع...، أما الجانب التشريعي فحدث ولا حرج، فكثيرا ما تم الدوس على الاختصاص التشريعي للبرلمان عن طريق التأويل المتعسف للفصل 19 من الدستور....أما المجالس المنتخبة فقد تحولت بقوة الواقع إلى مجال لخدمة المصالح الخاصة للمنتخبين بينما تتولى السلطات المحلية مهام تدبير الشأن المحلي..وتبقى المصلحة العامة والاستجابة لانتظارات المواطنين والتجاوب مع طموحاتهم هي الغائب الأكبر في هذه العملية....أما الانتخابات فقد ظلت دائما محكومة بقواعد الضبط والتحكم القبلي، مما يجعلها انتخابات ناقصة النزاهة والشفافية، فهي محكومة بتطبيق مشوه لنمط الاقتراع اللائحي ، وبتقطيع انتخابي "مخدوم" يفتقر إلى معايير واضحة ولا يستجيب لقواعد النزاهة والشفافية المعمول بها في الديمقراطيات الحقيقية، وببطائق انتخابية تم تدبيرها بالشكل الذي يصادر حق مئات الآلاف من المواطنين في التصويت.. نعم لقد كشفت انتخابات 7 شتنبر2007 وانتخابات 12 يونيو 2009 عن أزمة سياسية تعيشها البلاد، ترجمتها النسبة المتدنية للمشاركة : 37% من المسجلين في اللوائح الانتخابية، امتناع 63% عن التصويت، ما يقارب 20% من أوراق التصويت ، نسبة لا يستهان بها من غير المسجلين أصلا في اللوائح الانتخابية. وهو ما يطرح السؤال عن أسباب هذا المستوى المتدني من المشاركة؟ من المؤكد أنها ليست أسبابا إدارية أو تقنية ، ولكنها أسباب سياسية مرتبطة- بالدرجة الأولى- بضعف الثقة في المؤسسات السياسية وفي الفاعلين السياسيين.. نعم، إن التفكير في الاستقالة من البرلمان إشارة قوية على رفض الانخراط في لعبة القيام بدور "الكومبارس" وتكريس نوع جديد من العبث السياسي المتمثل في إفراغ المؤسسات من دورها الحقيقي.... هذه الخطوة هي دفاع عن المؤسسات وعن منطق المشاركة السياسية الحقيقية، ولذلك فهي خطوة في قلب ديناميكية النضال الديموقراطي من أجل إصلاح المؤسسات وليست خارجه... شكرا للأستاذ مصطفى الرميد..رسالتك وصلت.. و قوتها أنها جاءتنا من داخل البرلمان وليست من خارجه...