لم يتجاسر أي من المشاركات والمشاركين في ما سُمّي «اللقاء التشاوري»، الذي عقدته السلطة السورية في ظاهر دمشق صباح أمس (يقصد يوم الأحد)، على التلفظ باسم الشهيد الطفل حمزة الخطيب، وذلك رغم أن البعض بادر إلى الترحم على أرواح الشهداء، مدنيين وعسكريين. وكما لا يخفى، ثمة فارق بين أن تُجمل الشهداء أجمعين، وهذا ملمح إنساني، أيا كانت مقادير الصدق أو النفاق التي تكتنفه، وبين أن تشير بالاسم إلى جريمة نكراء بشعة، وهذا فرض سياسي وفريضة أخلاقية، غيابهما دال على نقص متعمد غالبا، إذ يندر أن يكون عفويا في المكاشفة السياسية والواجب الأخلاقي. كذلك لم يتجاسر أحد على استذكار الشهيد إبراهيم قاشوش، المغني الحموي الذي صار أيقونة ثانية بعد الخطيب، وكان قبلها قد استحق سلسلة صفات، بينها «حنجرة الثورة السورية» و«بلبل الثورة» و«عندليب العاصي»... تنطلق من أدائه الجميل والمميز في اعتصامات ساحة العاصي، بمدينة حماة. ولقد حرصت الأجهزة الأمنية، بالتعاون الوثيق مع قطعان «الشبيحة»، على اعتقال قاشوش وإخضاعه لتعذيب وحشي تبدى على أطراف جسده، قبل اغتياله بدم بارد وإلقاء جثته في نهر العاصي، ليس دون ممارسة الطقس البربري الأهم في نظر القتلة: جز حنجرته، لأنها صدحت طويلا ضد بشار الأسد شخصيا، وضد عدد من شخوص النظام الأبرز. الأرجح أن الذين تقصدوا عدم الإشارة إلى قاشوش وإلى الخطيب كانوا يتفادون وصم أجهزة النظام الأمنية بالسمات الأبشع التي تنطبق عليها، وانطبقت عليها على نحو أشد بشاعة خلال أسابيع الانتفاضة. ويستوي أن يقودهم إلى هذا «التطنيش» جزعٌ من بطش تلك الأجهزة، ساعة مغادرة القاعة الفخمة في منتجع «صحارى»، وهو الدافع الأعم منطقيا، أو جنوح بعضهم إلى التذرع بما يسمونه «روحية الحوار الوطني»، و«الحفاظ على الوحدة الوطنية». كلا الدافعين سواء، في الحصيلة، ما دام يحث الصامت على صمت يعف حتى عن ذكر أسماء الشهداء، فكيف بسرد قبائح الأجهزة التي اعتقلتهم وعذبتهم ومثلت بأجسادهم، قبل أن تزهق أرواحهم، عن سابق عمد وتصميم وغاية. والحال أن الغاية، التي تتوسل الرمز مثلما تسعى إلى تثبيت هيبة الاستبداد، توفرت في إقدام الأجهزة الأمنية على بتر العضو التناسلي للطفل الخطيب، لكي تفيد الرسالة بتر الرجولة حتى قبل أن تتفتح أو تبلغ سن الرشد، وقطع دابر الاحتجاج حتى في أنساقه العفوية والجنينية الأولى. أما في نموذج قاشوش، فقد شاءت السلطة تلقين الكثير من الدروس، بينها هذه كما للمرء أن يرجح: الحنجرة التي تهتف على هذا النحو من الجسارة ضد رأس النظام وضد شقيقه ماهر الأسد وأقرب معاونيه لا بد أن تُجزّ، ولا بدّ للنهر، الذي تحمل الساحة اسمه ويوحي معناه بالثورة والتمرد والاحتجاج والعصيان، أن يستقبل جثة قاشوش بعد إسكات حنجرته إلى الأبد، ولا بد للمدينة، التي رددت طويلا أهازيج قاشوش، أن تراه بأم العين ذبيحا من الوريد إلى الوريد، لكي يصير عبرة لمَنْ يعتبر... وإذا كانت حماة نفسها لم تعتبر، فخرج أبناؤها بمئات الآلاف إلى ساحة العاصي ذاتها ورددوا أهازيج قاشوش دون سواها، فصدحت حناجرهم بهتافات «يلا اِرحل يا بشار» و«سورية بدها حرية»، فإن المشاركات والمشاركين في لقاء فندق «صحارى» أخذوا العبرة بالفعل. لقد رُدعوا، لكي لا نقول إن الكثيرين منهم ارتدعوا ذاتيا، وكفوا أنفسهم شر الحديث عن بربرية بتر العضو التناسلي لطفل هتف للحرية في تظاهر أو وحشية جزّ حنجرة شاب هزج لها في ساحة عامة. ولعل المرء المعترض على هذا اللقاء لسبب أول هو أن بيئة النظام أمنية وعنفية، وبالتالي أبعد ما تكون عن إطلاق حوار كان سيشعر ببعض التسامح لو أن أيا من فارسات وفرسان اللقاء أتى على ذكر الخطيب أو قاشوش، وكان سيمنح المستذكِر فضيلة الشك، لصالحه وليس ضده. لكن الأمور هنا ليست بحاجة إلى خواتيم، لأن مقدماتها تفصح عنها بقدر ما تفضحها دون إبطاء. التاريخ، من جانبه، يسير على منوال آخر كما علمتنا تجارب كثيرة وبليغة، بينها حكاية المغني والموسيقي والشاعر والأستاذ الجامعي التشيلي فكتور خارا مع الطغمة العسكرية التي قادت الانقلاب العسكري ضد سلفادور ألليندي، سنة 1971. لقد استخدم الجلادون الهراوات وأعقاب البنادق في تكسير أصابعه، رمز قيثارته وموسيقاه الشعبية الملتزمة، قبل أن يعدموه رميا بالرصاص، وكان في التاسعة والثلاثين من عمره. إلا أن التاريخ تدخل في صيف 2008، بعد مرور 37 سنة، حين وجه القاضي خوان إدواردو فوينتيس تهمة القتل العمد إلى العقيد ماريو مانريكيز، الضابط الذي كان مسؤولا عن اغتيال خارا، أما المغني فإن الملعب الرياضي الذي شهد تكسير أصابعه سُمي باسمه، وخارا اليوم خالد في ذاكرة تشيلي والإنسانية جمعاء. فلا يظنن قتلة إبراهيم قاشوش أنهم بمنجاة من حساب الشعب السوري ومن حساب التاريخ، ولوالدة «عندليب العاصي» أن تقر عينا بشهيد جمع دمه إلى حنجرته، لكي يقول للطاغية إن ساعة رحيله أزفت ولا راد لها، ولأهل لقاء «صحارى» أن يجدوا العزاء، كل العزاء، في أداء الببغاء!