استجاب خطاب 9 مارس 2011 للعديد من المطالب التي كانت ترفعها القوى السياسية والنقابية والشبابية، فهو خطاب لا يمكن اعتباره مجرد دعوة إلى تعديل دستور 13 شتنبر 1996، بل رسم ملامح مشروع دستور جديد من خلال المبادئ السبعة التي على ضوئها ستتم صياغته، وهذه المبادئ هي استجابة للعديد من المطالب، كمطلب دسترة الأمازيغية، ومطلب إقامة نظام سياسي مرتكز على مبدأ فصل السلط، ومطلب انبثاق الحكومة عن انتخابات حرة ونزيهة وممثلة لأغلبية برلمانية واضحة، ومطلب تحويل القضاء إلى سلطة مستقلة، وتعزيز صلاحيات السلطة التشريعية، سواء بتوسيع مجال القانون أو إعادة النظر في صلاحيات مجلس المستشارين، وهو ما نص عليه الخطاب الملكي بمنح الأولوية لمجلس النواب في ما يتعلق بالتشريع ومراقبة السياسة العامة، إضافة إلى دسترة الجهوية وتوصيات الإنصاف والمصالحة ومنح ضمانات للمواطنين المغاربة على مستوى حقوق الإنسان. يحدد خطاب 9 مارس 2011 توجهات دستور جديد، يؤسس لممارسة سياسية جديدة، فقد كانت هناك مطالب تدعو إلى إصدار دستور ديمقراطي، ومن خصائص أي دستور ديمقراطي إقرار مبدأ الفصل بين السلطات وإقرار مبدأ سُمو القانون. نحن، إذن، أمام مرحلة جديدة من شأنها، إذا استثمرت بشكل جيد، أن تحدث قطيعة مع الكثير من الممارسات السابقة، وإقامة نظام يستطيع بالفعل أن يوفق بين الملكية والديمقراطية، بمعنى آخر: الانتقال من ملكية تنفيذية، كما تحدث عنها الملك محمد السادس في 2002، إلى ملكية متوازنة يكون فيها اقتسام للسلطة بين المؤسسة الملكية وحكومة تمثيلية منبثقة عن أغلبية برلمانية تفرزها انتخابات شفافة وحرة ونزيهة. يشكل خطاب 9 مارس 2011 أسلوبا جديدا للتعاطي مع مطالب المغاربة، فقد كان الإشكال في السابق أنه عوض الاستجابة للمطالب السياسية كانت تتم الإحالة على إصلاحات ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية. إن المطالب التي عبرت عنها فئات الشعب المغربي كانت دائما تنقسم إلى قسمين: مطالب اجتماعية واقتصادية تتعلق بتحسين مستوى عيش المواطن، وأخرى ذات طبيعة سياسية تنصب على إعطاء مصداقية للمؤسسات الدستورية وتوسيع الحريات والمشاركة. إن ما ورد في الخطاب من مبادئ وتوجيهات يتضمن استجابة للمطالب السياسية، بإمكانها أن تحقق مصالحة تاريخية بين الديمقراطية، من جهة، والمؤسسة الملكية، من جهة أخرى، لأن ما قاله الملك يضع حدا لما يسمى الملكية التنفيذية، دون أن يصل ذلك إلى الملكية البرلمانية التي يحتاج تحقيقها إلى المرور عبر مرحلة انتقالية، خاصة وأن دعائم الملكية البرلمانية غير متوفرة. إن الخطاب الملكي كان واضحا، حيث تحدث عن ضرورة اعتماد نظام ديمقراطي، كما تحدث عن ضرورة دسترة ضمانات ممارسة الحقوق والحريات. وقد أبدى البعض تخوفاته من أن يفرغ الخطاب الملكي من محتواه وألا يجد ترجمته الفعلية في مشروع الدستور الجديد، غير أن هذا التخوف كان مبالغا فيه، باعتبار أن تلك التخوفات لم تكن مستندة إلى فهم عميق لمضامين ذلك الخطاب الذي ظل، في عمقه، مرتبطا بالنظرية الدستورية للجمهورية الخامسة في فرنسا، كما أن هذه التخوفات لم تأخذ بعين الاعتبار السياقين المحلي والإقليمي اللذين لا يسمحان بالالتفاف على التوجهات التي تضمنها الخطاب. هناك من اعترض على تعيين لجنة لتعديل الدستور وطالب بانتخاب مجلس تأسيسي، غير أن هذا لا يطرح أي إشكال على هذا المستوى، فلم تكن مهمة اللجنة وضع دستور بل وضع مشروع دستور فقط يعرض على الشعب في استفتاء شعبي. وفقهاء القانون الدستوري متفقون على أن هناك طريقتين لوضع الدستور الديمقراطي: الأولى عبر مجلس تأسيسي يقوم الشعب بانتخابه، ويسمى سلطة تأسيسية أصلية، مهمته وضع دستور للبلاد وليس وضع مشروع دستور. وهذه الطريقة هي التي اتبعتها تونس أخيرا، حيث أعلنت أنها ستنتخب هيئة تأسيسية في شهر أكتوبر المقبل لوضع دستور جديد للبلاد. وهناك طريقة ثانية وهي أن تقوم هيئة بوضع مشروع دستور ويعرض على الاستفتاء الشعبي، ليرفض أو يقبل، وهذه الطريقة هي التي اتبعتها فرنسا في وضع دستور الجمهورية الخامسة في سنة 1958. إن الدستور الجديد يقطع مع التصور العام الذي استندت إليه الدساتير السابقة في المغرب، على مستوى فلسفة الحكم المعتمدة، ذلك أن هذه الأخيرة كانت تتأسس على فلسفة سياسية للحكم تفيد بأن الملك هو مصدر المشروعية للحكومة والبرلمان والقضاء، وأن المؤسسة الملكية هي التي توجد فوق الدستور، إضافة إلى أن هذه الفلسفة السياسية كانت تعتمد مبدأ سمو المؤسسة الملكية، بدل مبدأ سمو الدستور، «كما كان الملك يُعتبر هو الممثل الأسمى للأمة، في حين أن البرلمانيين يحظون بتمثيلية أدنى من تمثيلية الملك للأمة». إن الدستور الجديد يمنح العديد من الحقوق والحريات للمغاربة ويكرس مفهوم المواطنة، وهذا شيء إيجابي، كما أنه يسعى إلى بناء نظام حكم مؤسس على مبدأ فصل السلطات، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، حسب ما ورد في الفصل الأول من الباب الأول من الدستور الجديد. إن صلاحيات الملك أصبحت أكثر وضوحا بالمقارنة مع صلاحيات المؤسسة الملكية في الدساتير السابقة، كما أن هناك تحديدا واضحا لصلاحيات الحكومة ورئيسها وتوسيعا لمجال القانون، إضافة إلى تمتيع القضاء بصفة السلطة التي تتمتع بكامل الاستقلالية. هل الدستور الجديد يؤسس لنظام الملكية البرلمانية بالمغرب؟ إذا كانت الملكية البرلمانية، في المفهوم التقليدي، تفيد بأن الملك يسود ولا يحكم، فهذا الدستور لا يتأسس على هذا المبدأ لأن الملك يسود ويحكم، ولكن هناك مستوى آخر ينبغي أن نتعاطى فيه مع الدستور باعتباره يؤسس للحقوق الأساسية والحريات، ويمنح الكثير من الضمانات للمواطنين، ويتحدث بشكل واضح عن المواطنة بحقوقها وواجباتها. يطمح الدستور الجديد إلى تفعيل شروط انبثاق ما يسمى بدعائم النظام الديمقراطي. وعندما نتحدث عن دعائم النظام الديمقراطي فهي تتمثل -أولا- في وجود أحزاب سياسية تقوم بوظيفة التأطير وتمثيل المواطنين وتكريس الديمقراطية داخلها، والمقتضيات الدستورية الجديدة تسير في هذا الاتجاه، حيث تدفع الأحزاب إلى اعتماد آليات ديمقراطية لتسيير أنشطتها، إضافة إلى تمثيليتها للمواطنين وتكوينهم سياسيا، وتتجسد -ثانيا- في وجود مجتمع مدني، حيث يتم تحديد أدواره في المشاركة في اتخاذ القرار، وكذلك في التشاور حول السياسات العمومية، خاصة على المستوى المحلي. وقد خصص الدستور الجديد الكثير من المقتضيات التي تتحدث عن المجتمع المدني وضرورة إشراكه في تحديد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها، إضافة إلى إحداث مجلس استشاري، وهو مجلس الشباب والعمل الجمعوي الذي أنيطت به مهمة دفع المواطنين إلى المشاركة في الحياة الوطنية من خلال روح المواطنة المسؤولة. تتحدد رهانات دستور فاتح يوليوز 2011 في تأمين شروط الانتقال الديمقراطي، سواء تعلق الأمر بإضفاء المصداقية على الأحزاب السياسية وجعلها مجسدة لتعددية سياسية حقيقية أو تعلق بتقوية دور المجتمع المدني الذي تنبثق منه الكتلة الناخبة التي تمنح المشروعية الشعبية لمدبري الشأن العام. إن دستور فاتح يوليوز 2011 لا ينبغي التعاطي معه باعتباره دستور المرحلة الديمقراطية، بل باعتباره الدستور الذي يؤطر مرحلة الانتقال الديمقراطي.